سعيد الحاج - الجزيرة نت
على بعد 7 أشهر من الانتخابات المحلية في تركيا، بدأت معظم الأحزاب السياسية عملية التحضير لها بدءا من الإعداد للمؤتمرات العامة لها، ويبقى السؤال الأهم حول مدى قدرة المعارضة على منافسة حزب العدالة والتنمية الحاكم على بلديات المدن الكبرى ومدى قدرة الأخير على استعادة البلديات التي خسرها في الانتخابات السابقة وفي مقدمتها بلدية إسطنبول الكبرى.
خسارة إسطنبول
منذ فوز أردوغان ببلدية إسطنبول الكبرى عام 1994 عن حزب الرفاه، والتي شكلت مفاجأة في حينها، لم تخرج المدينة عن سيطرة الحزب ثم حزب العدالة والتنمية إلا عام 2019، وقد شكل ذلك في حينه مفاجأة أكبر من السابقة. كان الرئيس التركي يعدُّ إسطنبول ضمن أبرز إنجازاته في حياته السياسية، ولطالما ردد بأن "من يكسب إسطنبول يكسب تركيا ومن يخسرها يخسر تركيا"، قاصدا الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وقفت أسباب عدة خلف خسارة العدالة والتنمية البلدية الأهم والأكبر وصاحبة الرمزية في البلاد، في مقدمتها توافق المعارضة خلف مرشح واحد هو أكرم إمام أوغلو، الذي حصل رسميا على دعم الأحزاب الأربعة المنضوية حينها في تحالف الأمة المعارض من توجهات مختلفة وبشكل غير رسمي على دعم حزب الشعوب الديمقراطي "الكردي".
لسنوات طويلة تسود قناعة لدى شرائح قيادية في الحزب الحاكم بأن أحد أهم أسباب خسارته لبلدية إسطنبول الكبرى هو ملف السوريين والأجانب عموما الذي رفعته المعارضة في وجهه كأحد أهم الملفات الانتخابية. ورغم أن الوجود السوري والأجنبي في البلاد أثر على فرص العدالة والتنمية جزئيا في بعض المناطق، لا سيما أن الحزب لم يدر الملف بكفاءة تجنبه هذا التأثير، فإنه لم يكن السبب الرئيسي للخسارة.
كان ثمة ما يتعلق بطول مدة حكم العدالة والتنمية البلاد وما تسبب به من مشاكل من جهة وتململ فئات داعمة له من جهة أخرى، وهو الأمر الذي أدى لتراجع شعبية الحزب وتأييده وكذلك لتأسيس أحزاب جديدة قادها قياديون سابقون فيه انشقوا عنه. كما كانت إدارة الحزب للبلدية وتغيير رئيسها قبيل الانتخابات، ثم اختيار رئيس البرلمان السابق ورئيس الحزب السابق بن علي يلدرم مرشحا لرئاسة البلدية، فضلا عن تراجع المؤشرات الاقتصادية في البلاد من ضمن أهم الأسباب التي أفقدت الحزب الحاكم بلدية إسطنبول. ثم كان إصرار الأخير على الطعن بالنتيجة وطلب إعادة الانتخابات في المدينة سببا إضافيا لرفع الفارق بين إمام أوغلو ويلدرم في الإعادة عشرات الأضعاف.
مما يدعم هذا التقدير، أن خسارة إسطنبول أتت في الأساس لأسباب ذاتية وليس بسبب السوريين أو الأجانب في المقام الأول، وأن الحزب وإن خسر رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى فقد فاز بأغلبية مجلسها البلدي، والأمر نفسه ينطبق على بلدية أنقرة الكبرى، بما يشير إلى "تصويت عقابي" أو احتجاجي من أنصاره أو المصوتين له تقليديا، وهو تصويت احتجاجي استمر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة رغم تراجع حضور الملف فيها، فضلا عن أنه فاز برئاسة بلديات يشكل السوريون نسبة مرتفعة جدا من سكانها في المدن الحدودية مع سوريا.
فرص الفوز
قدم الفوز ببلديتي إسطنبول وأنقرة تحديدا جرعة معنوية كبيرة للمعارضة، فطفقت تروّج أنها قادرة على الفوز برئاسة البلاد وأغلبية البرلمان، واعدة بإعادة تركيا للنظام البرلماني السابق بعد تطويره وتعزيزه، وشكلت في سبيل ذلك الطاولة السداسية وحصلت على دعم الشعوب الديمقراطي، لكن مرشحها -زعيم المعارضة- خسر الرئاسيات ولم تحصل هي على أغلبية البرلمان.
أدت هذه الخسارة لتفاقم الخلافات بين أركان الطاولة السداسية بعد الانتخابات وخروجها للعلن، سواء كان داخل حزب الشعب الجمهوري أو بين الأخير وباقي الأحزاب الخمسة. فقد أعلنت معظم الأحزاب التي كانت منضوية تحت الطاولة السداسية عن انتهاء التحالف وانتفاء أسباب وجوده بعد الانتخابات، حتى أن رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنار وصفت التعاون مع حزب الشعب الجمهوري بأنه "أكثر ما ندمت عليه" في حياتها السياسية. من جهة أخرى، يواجه زعيم المعارضة كمال كليجدارأوغلو عصيانا علنيا داخل حزبه ومطالبات بالتغيير والتجديد ترفعها قيادات بارزة في الحزب، في طليعتها أكرم إمام أوغلو نفسه.
وإذا كان تجمع المعارضة خلف مرشح واحد السبب الأبرز والأهم في فوزها ببلدية إسطنبول في 2019، فإن خلافاتها وتشرذمها الآن يوحيان بنتيجة مختلفة. فقد فاز إمام أوغلو بأصوات الشعب الجمهوري الكمالي والجيد القومي والسعادة الإسلامي والشعوب الديمقراطي "الكردي" وآخرين. أما في الانتخابات المقبلة، فتقول المعطيات الحالية إن هذه الأحزاب قد تقدم أكثر من مرشح هذه المرة، لا سيما الحزب الجيد الذي قدم عدة إشارات على أنه سيخوض الانتخابات المقبلة بمرشحه الخاص.
من البديهي أن هذه ليست قرارات نهائية وأن المشهد السياسي قبيل الانتخابات قد يختلف، وأنه سيتأثر بعدة عوامل في مقدمتها نتيجة المعركة الداخلية في الشعب الجمهوري. ذلك أن بقاء كليجدارأوغلو على رأس الحزب حتى الانتخابات سيكون عائقا كبيرا أمام إعادة التحالف مع الحزب الجيد والآخرين، بينما رحيله وترؤس شخص آخر للحزب -لا سيما إن كان إمام أوغلو- قد يعيد طرح فكرة التحالف مرة أخرى.
وعليه، فإن الخلافات الحالية والمرشحة للاستمرار بين أطراف المعارضة تعظّم فرص العدالة والتنمية بالفوز مجددا بالبلدية الأهم في البلاد، إذ إن نتيجة الانتخابات المحلية تحسم من الجولة الأولى لصالح الأعلى أصواتا ولا يحتاج الفائز للحصول على %50 أو لجولة إعادة، وبالنظر إلى أن الحزب الحاكم ما زال يتقدم الأحزاب الأخرى بفارق مريح فإن صيغة عدم التحالف والتكتل في مواجهته تعزز فرصه بشكل كبير.
بيد أن العوامل المتعلقة بالمعارضة ليست كافية لوحدها للفوز في المحليات المقبلة، بل ثمة عوامل أساسية متعلقة بالعدالة والتنمية نفسه. في مقدمة هذه العوامل حسن اختيار المرشح، وهو أمر يوليه الحزب الحاكم أهمية قصوى فتتردد في كواليسه أسماء قوية كمرشحين محتملين لرئاسة البلدية، مثل وزير الداخلية السابق سليمان صويلو ووزير البيئة والتطوير العمراني والتغير المناخي السابق مراد كوروم ورئيس بلدية إسنلار في إسطنبول ونائب رئيس كتلة الحزب في مجلس بلدية إسطنبول محمد توفيق غوكصو.
يغلب على ظننا أن صويلو لن يكون مرشحا مناسبا في إسطنبول بسبب عدم تفضيل "الناخب الكردي" فيها شخصية قومية "صقورية" مثله، مع بقاء فرصه ضمن المرشحين المحتملين في أنقرة، مما يجعل فرص كوروم وغوكصو -وربما غيرهما- أعلى منه.
من جهة أخرى، سيكون على الحكومة أن تقدم إنجازات ملموسة في المجال الاقتصادي قبل الانتخابات البلدية، ولا سيما ما يرتبط بالتضخم وغلاء والأسعار، فذلك من العوامل الرئيسة في توجهات الناخبين. كما أن الحملة المعلنة من وزارة الداخلية لضبط الهجرة غير النظامية في البلاد -خاصة في إسطنبول- تصب في رغبة الحزب الحاكم في تقديم صورة لناخبيه عن جديته في حل تعقيدات هذا الملف.
كما أن هناك عاملا أخيرا ينبغي وضعه في الحسبان وهو تقديم الأحزاب الصغيرة، لا سيما تلك المنشقة عن العدالة والتنمية، مرشحين خاصين بها في الانتخابات المقبلة، إذ من شأن ذلك أن يسحب قليلا من رصيد مرشحي الأحزاب الكبيرة، لكنه سيكون تأثيرا ضئيلا ومن الصعب أن يؤثر في النتائج.
وفي الخلاصة، وعلى عكس بلدية أنقرة الكبرى التي يحظى رئيسها منصور يافاش بحظوظ وافرة لإعادة انتخابه، فإن فرص حزب العدالة والتنمية باستعادة بلدية إسطنبول الكبرى تبدو كبيرة وفق المعطيات الحالية. ومما يعزز هذا التقدير خلافات المعارضة وتوقع تقديمها أكثر من مرشح في الانتخابات المقبلة، وتوقع تقديم العدالة والتنمية مرشحا قويا وذا خبرة وسمعة طيبة، وعدم تقديم إمام أوغلو في السنوات الماضية إنجازات كبيرة في إسطنبول وانشغاله أكثر بالتنافس السياسي في البلاد ثم داخل حزبه، فضلا عن أهمية البرنامج الاقتصادي الحالي ومآلاته قبيل الانتخابات.
لكن، وكما نذكّر دائما، يبقى هذا تقييما أوليا بانتظار اقتراب الانتخابات وتبلور المشهد الانتخابي بتحالفاته ومرشحيه وبرامجه، وإلا فإن "24 ساعة مدة طويلة جدا في السياسة التركية".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!