ترك برس
زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان روسيا في 4 سبتمبر/أيلول الجاري، حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مدينة سوتشي لمدة 3 ساعات، وتكمن أهمية الزيارة في أنّها عالجت العلاقات التركية-الروسية من جهة، وتناولت قضية تشغل الأجندة العالمية وهي تجديد اتفاقية ممر الحبوب التي انتهت قبل شهرين في ظل حاجة ماسة إلى تجديدها لطمأنة الأسواق ومنع حدوث تأثير سلبي عالمي، من جهة أخرى.
وتعزو موسكو تعليق مشاركتها في صفقة الحبوب إلى أنّ الجزء المتعلق بتسهيل صادرات الحبوب والأسمدة الروسية من الاتفاق لم يوفَ به، إضافةً إلى إعادة ربط البنوك الروسية بنظام “سويفت” وفتح خط أنابيب الأمونيا “تولياتي-أوديسا”.
بعد قمة الناتو
من زاوية أخرى، تأتي زيارة أردوغان لروسيا بعد فوزه في انتخابات مايو/أيار الماضي، وبعد قمة الناتو الأخيرة التي أعطت تركيا فيها السويد الضوء الأخضر الأوّلي للانضمام إلى الناتو، في خطوة جرى تقييمها أنّها ستسبّب استياء روسيا وستؤثر في العلاقات بين أنقرة وموسكو.
لكن يبدو أنّ زيارة أردوغان الأخيرة أثبتت أنّ الطرفين لديهما من الحكمة ما يكفي للتركيز على ملفات المصالح المتبادلة وفصلها عن قضايا الخلاف، ويرجع هذا في جزء منه إلى الدبلوماسية القيادية الخاصة بين بوتين وأردوغان، كما يشير رئيس مركز سيتا للدراسات البروفيسور برهان الدين دوران، الذي كان مشاركاً ضمن وفد الباحثين والصحفيين إلى روسيا على متن طائرة الرئيس أردوغان.
مرة أخرى ومع عدم وجود آفاق لانتهاء الأزمة الأوكرانية، تبرز تركيا من خلال ما يُعرف بـ”دبلوماسية الكرة” التي يجري التركيز فيها على قضية محدّدة يمكن النجاح بتحقيقها، إذ استطاعت تركيا تجديد اتفاقية ممر الحبوب مرات عدّة وها هي تحاول مرة أخرى الاستمرار في هذا النشاط بما يخدم تموضعها وسيطاً في أزمة الحرب في أوكرانيا، وهو ما يبدو أنّه قرار استراتيجي اتخذته أنقرة وتسعى بشكل متواصل للحفاظ عليه، حتى تتجنب من جهة أي تكلفة للانحياز إلى أي طرف في هذه الحرب، إذ تجنّبت تركيا المشاركة في العقوبات الغربية على روسيا رغم عضويتها في الناتو وتحسن علاقاتها بالأطراف الغربية بعد الانتخابات الأخيرة.
كذلك تثبت تركيا استقلالها الاستراتيجي وتحافظ على التوازن كدولة من جهة أخرى، ويشير محللون أتراك إلى أنّ أردوغان هو الزعيم الوحيد تقريباً الذي يمكنه أن يلتقي كلاً من بوتين وزيلينسكي ويقود محادثات فاعلة ويدير العملية الدبلوماسية بتوازن وحرفية.
وحتى لو لم تنجح مساعي تجديد اتفاقية ممر الحبوب بالنظر إلى تصريحات بوتين التي اتهمت الغرب بالخداع في الصفقات السابقة وعدم الوفاء بالتعهدات، فيما تربط تركيا استئناف الصفقة برفع العقوبات، فإنّ دور تركيا سيحافظ على أهميته، وستحرص أنقرة على الاستمرار بعملية الحوار بين الأطراف وعلى إيجاد طرق لنقل الحبوب.
يشار إلى وجود تفاهمات على طرق بديلة منها نقل الحبوب إلى تركيا ومن ثم إلى دول أخرى، وعلى كل الأحوال كما ذكرنا، لو لم تحدث تفاهمات فقد جرى تنسيق المواقف على الأقل خلال لقاء أردوغان مع بوتين.
وفي هذا السياق، عبّر الرئيس أردوغان أيضاً عن انزعاجه من انتقال الحبوب المخصصة للدول الإفريقية، التي تمرّ عبر ممر الحبوب المتفق عليه، إلى أوروبا، إذ ذكر بوتين أنّ “الغرب كان يخدعنا بالحديث عن مبادرة البحر الأسود، لأنّ 70% من الحبوب وصلت إلى الاتحاد الأوروبي، فيما وصل 3% فقط إلى الدول المحتاجة”.
وعلى كل الأحوال، أخذ أردوغان من بوتين استعداداً لاستئناف الصفقة بعد وفاء الغرب بتعهداته وهي إزالة حظر توريد قطع الغيار للمعدّات الزراعية والأسمدة وإزالة حظر استخدام روسيا للنظم البنكية.
مكاسب ثنائية
وإضافةً إلى تثبيت موقفها في ظل اشتداد التنافسات الدولية، عمل الرئيس أردوغان خلال زيارته لروسيا على تحقيق جملة من المكاسب والإنجازات، من ضمنها رفع التجارة الثنائية من 69 مليار دولار إلى 100 مليار دولار، وارتفع التبادل التجاري بين الطرفين بنسبة 4% في العام الحالي.
وعلى مستوى ملف الطاقة، أكد الجانبان استمرار التباحث بشأن تفاصيل بناء مفاعل مدني جديد للطاقة في مدينة سينوب التركية على البحر الأسود، وكان تأكيد بوتين تأييده لنقل الغاز الروسي عبر تركيا مهماً لرؤية تركيا للتحول إلى مركز عالمي لنقل الطاقة.
وعلى المستوى السياسي بالتأكيد، ناقش الرئيس أردوغان التطورات في المشهد السوري مع بوتين، سواءً العلاقة مع النظام أو التطورات على الحدود السورية-العراقية والاشتباكات بين العشائر العربية وPKK/YPG الإرهابي في دير الزور أو المظاهرات الدرزية في السويداء، وقال بوتين حول سوريا: “نولي التعاون مع تركيا من أجل التوصل إلى حل أهمية كبيرة، ويمكننا أيضاً عرض العمل المشترك في ليبيا”. ومن جانب آخر لاقى فتح روسيا مكتباً في جمهورية شمال قبرص استحساناً تركياً.
وفي تقييم اللقاء بشقيه الثنائي والدولي، يمكن القول إنّ أردوغان نجح في الحفاظ على علاقة جيدة مع روسيا تضمن استمرار مصالح تركيا معها، إذ حافظ على الموقف المتوازن لتركيا في ظل إصرار موسكو على مواقفها فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية والمواجهة مع الغرب، بل وتشكيل كتل ومناطق لمحاصرة الغرب وتحضيراً واستعداداً لنظام عالمي جديد.
وفي هذا السياق، يدرك بوتين تمييز تركيا لنفسها عن الغرب، وبرز ذلك في قوله إن روسيا تعرضت لخداع شركائها الغربيين، لكنه سيستمر في بحث اتفاقية الحبوب مع الرئيس التركي.
ويبدو أنّ الرئيس أردوغان سيسعى لتنسيق مواقفه بخصوص اتفاقية الحبوب مع الأمم المتحدة لضمان مزيدٍ من الدعم لتحقيق النجاح، وسيكون لقاؤه مع بوتين والتفاهمات وتنسيق المواقف التي حدثت مفيداً لأردوغان في لقاءاته القادمة مع الأطراف الغربية، لا سيّما اجتماع قمة العشرين في الهند.
**تقرير تحليلي للكاتب والباحث محمود سمير الرنتيسي، نشره مركز سيتا التركي للدراسات والأبحاث.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!