ترك برس
أكد الإعلامي التركي توران قشلاقجي، أن الأحزاب السياسية تقوم عادة بتقييم نتائج الانتخابات من حيث الفوز والخسارة، لكنها تتجاهل البنية المتغيرة للمجتمع والديناميات الاجتماعية، الناجمة عن هذا التغيّر.
ورأى قشلاقجي أنه بالتوازي مع التحولات الاقتصادية والسياسية الكبيرة، يشهد العالم في يومنا الحالي واحدة من أعظم التحولات الاجتماعية عبر التاريخ. ويخلق هذا التغيّر الاجتماعي فجوات وانقسامات عميقة في بنية وسيكولوجية المجتمعات ويتطلب تحليلات اجتماعية موسعة وجادة.
وقال في مقال بصحيفة القدس العربي إنه بينما تناقش الأحزاب السياسية في تركيا العديد من القضايا، بناء على نتائج الانتخابات، لم يتمكن أي من حزب العدالة والتنمية، أو حزب الشعب الجمهوري، أو حزب الرفاه من جديد، أو حزب الحركة القومية، أو أي حزب آخر، من فهم وتحليل هذا التحول الاجتماعي بالمعنى الحقيقي.
وأضاف: إنهم يحاولون في الغالب إجراء التحليل، بناء على النظريات الأيديولوجية التقليدية، أو البيانات الواردة من شركات الاستطلاع. أعتقد أن القراءة المعمقة ضرورية لفهم هذا التغير والتحول الاجتماعي، وإلا فإننا، كمجتمع، قد نتعرض لاضطرابات كبرى أو موجات تسونامي، مثل بقية شعوب العالم.
ووفقا للكاتب، تقوم الأحزاب السياسية عادة بتقييم نتائج الانتخابات من حيث الفوز والخسارة، لكنها تتجاهل البنية المتغيرة للمجتمع والديناميات الاجتماعية، الناجمة عن هذا التغيّر، وبعيدا عن الربح والخسارة؛ نحن في الواقع أمام بنية اجتماعية متطورة وعالقة ولم يتم بعد إيجاد المخرج من هذه البنية.
كما أن هذا الوضع الجديد مسألة إلزامية يجب فحصها، ليس فقط بالنسبة للسياسيين، بل أيضا بالنسبة للمجتمعات ومنظمات المجتمع المدني وجميع الكيانات الأيديولوجية.
وأردف: لم يعد مجتمعنا الحالي يتكون من العيادات والمصحات والسجون والثكنات والمصانع، وهي عناصر من المجتمع الانضباطي، الذي حدده ميشيل فوكو، فقد تم استبدال هذه الكيانات بأماكن مثل مراكز اللياقة البدنية وأبراج المكاتب والبنوك والمطارات ومراكز التسوق ومختبرات الجينات.
وتحول مجتمع القرن الحادي والعشرين إلى مجتمع يقوم على الأداء، وتطور فيه الأفراد من «ذوي الطاعة» إلى «ذوي الأداء». ويعمل هؤلاء الأفراد الجدد كرواد أعمال ومؤثرين في حياتهم المهنية ومسارات حياتهم.
وتابع المقال:
لا تستطيع تحليلات فوكو للسلطة أن تفسر بشكل كاف تحول المجتمع الانضباطي إلى مجتمع أداء، ولا يمكن لمفهوم «مجتمع السيطرة» أن يعبر بشكل كامل عن هذا التحول وله معنى سلبي. في الواقع، يشهد المجتمع التركي هروبا من «سياسة الإرهاق» إلى «سياسة الغموض». العلماء المعاصرون الذين يصفون عصرنا بأنه «عصر ما بعد الحقيقة» أو «عصر الغموض»، يقدمون العديد من الدراسات لتحليل هذا التحول.
وفي هذا الصدد، يمكن لبعض المؤلفات والكتب أن تقدم مساهمات مهمة في ضمان فهمنا لعصرنا الحالي، مثل «مجتمع التعب/الإرهاق» و»السياسة النفسية»، للمؤلف والفيلسوف الألماني الكوري المولد بيونغ تشول هان، و»رتابة العالم: الغموض وفقدان التنوع» و»ثقافة الغموض والإسلام» للعالم الألماني توماس باور، و»الحداثة والتناقض» و»الحكم في العالم الحديث السائل»، لعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي زيغمونت باومان.
وبما أن المفاهيم السياسية التقليدية مثل اليمين اليسار، والعلماني المحافظ، والاشتراكي الليبرالي، والإسلامي القومي، والمحلية الغربية قد فقدت تأثيرها القديم، فقد أصبح من الضروري تقييم السياسة العالمية والسياسة التركية من وجهات نظر جديدة.
إن سياسة الإرهاب موجودة منذ سنوات كظاهرة تشكل الحياة اليومية والبنى الفكرية والعلاقات الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، ولكن في السنوات الأخيرة نلاحظ التحول نحو سياسة عدم اليقين والغموض، كرد فعل على الصراعات الأيديولوجية المرهقة. ويتوافق هذا الفهم الجديد للسياسة مع عالم تتضاءل فيه اليقينيات وتتصدره وجهات النظر وحالات الغموض المتعددة. تتطور سياسة الغموض في بيئة لا يكون فيها كل شيء واضحا ومؤكدا، وحيث توجد احتمالات مختلفة وآراء مختلفة.
وتشجع هذه السياسة الأفراد والمجتمعات على الابتعاد عن الأفكار الثابتة والأيديولوجيات الجامدة، وأن يصبحوا أكثر مرونة وتكيفا وانفتاحا. وهذا يسهل على الأفراد التكيف مع عالم دائم التغير والنمو، ويمكن أن يساعد أيضا في تقليل الصراعات الاجتماعية والاستقطاب.
ولا شك بأن الانتقال من سياسة الإرهاق إلى سياسة الغموض يرتبط أيضا بالتدفق السريع للمعلومات والتطورات التكنولوجية، وهي إحدى الخصائص الأساسية لعصرنا، فالوصول بسهولة إلى المعلومات والتحديث المستمر للمعلومات يتطلب من الأفراد والمجتمعات اعتماد نهج منفتح على التغيير بدلا من الأفكار الثابتة والنهائية، ويتيح ذلك للأفراد اكتساب مهارات تفكير أكثر مرونة وقبول وجهات نظر مختلفة بسهولة أكبر.
في المحصلة؛ يعكس الهروب من سياسة التعب إلى سياسة الغموض الجهد المبذول للتكيف مع تحديات عصرنا وإمكاناته. ويشجع هذا الهروب الأفراد والمجتمعات على أن يكونوا أكثر مرونة وانفتاحا وقدرة على التكيف، ولكنه يجلب معه أيضا الحاجة إلى تطوير أساليب جديدة للتعامل مع عدم اليقين وعمليات صنع القرار في جميع مجالات الحياة.
التاريخ هو الذي سيقرر ما إذا كان هروب المجتمعات إلى سياسة الغموض، أمرا صائبا أم خطأ، إلا أن هذا التحول اللافت الذي يشهده التاريخ يبرز كأحد أهم التحديات التي تواجهها المجتمعات المعاصرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!