يوسف قابلان - يني شفق
تواصل مجازر غزة وحشيتها دون هوادة، رئيس ألمانيا شولتس يزور إسرائيل للمرة الألف، بينما يعلن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن عن زيارته السابعة لإسرائيل في خطاب ألقاه أمام عائلات الأسرى الإسرائيليين.
هل فقد هؤلاء عقولهم أم أصبحوا مسعورين؟ فليخبر أحد ما عديمي الضيمر هؤلاء أنهم يحفرون قبروهم بأيديهم.
لقد اتضح أن المسلمين ليس لديهم أي قوة أو مؤسسات أو تأثير أو وجود للوقوف في وجه الظلم الذي يحدث في غزة وإيقاف المجازر والإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهلها.
ولكن ذلك لا يقتصر على المسلمين فقد أصبحت البشرية بأكملها أسيرةً لليهود، مجبرةً على الرضوخ والخنوع أمام الصهيونية.
ما نشهده ليس مسرحية هزلية، بل حقائق مُرعبة ومؤلمة تُدمي القلوب وتُفقد العقل صوابه. لا يمكن السكوت على هذه الجرائم البشعة. لقد أثبتت غزة للعالم أجمع كيف أنّنا نعيش في مسرحية مُنّعة. لقد سقطت الأقنعة، وظهرت الحقيقة عارية، لقد انكشفت اللعبة.
مقاومة غزة تُظهر لنا جوهر الإنسانية
يواجه المسلمون اليوم إحدى أصعب الفترات في تاريخهم، ويشهدون ثاني أزمة حضارية كبرى. وهم أمام مسؤولية جسيمة، أولاً: وصف هذه الأزمة بدقة، وثانيًا: بذل الجهود للتغلب عليها. وإلاّ فسوف نواجه المزيد من مجازر غزة والإبادات الجماعية.
ولا تقتصر هذه الأزمة على المسلمين فقط، بل هي أزمةٌ عالميةٌ متعددة الطبقات ومعقدة. ففي المقام الأول، تعاني الحضارة الغربية نفسها من أكبر أزمةٍ فلسفيةٍ ووجودية في تاريخها، وتفرضها على العالم أجمع بسبب سيطرتها عليه. لقد فَقَدَ الوجود معناه وقيمته، وسيطر شعور بالفراغ وفقدان الروح على كل شيء.
باختصار تعاني البشرية جمعاء من أزمة وجودية عميقة، وتواجه تحديات جسيمة تتعلق بالاستقلال والمستقبل.
لقد أثبتت غزة للبشرية جمعاء وبشكلٍ قاطع، أن العالم بأكمله أسير للغرب الذي يهيمن عليه اليهود.
هناك شيء واحد يميز المسلمين، إنهم يدركون إلى حد ما أنهم يعيشون أزمة كبيرة. فالإسلام لم يُسلِّم الراية، ولم يُهزم، ولم يُحوَّل إلى دينٍ آخر كما حدث مع المسيحية والبوذية.
لذلك، فإنّ العالم الإسلامي هو المستهدف. لأنّ العالم الإسلامي هو الوحيد الذي يقاوم النظام الغربي، ذلك النظام العالمي الظالم الوحشي الرأسمالي.
يعتقد هؤلاء "الهمجيون الغربيون المتحضّرون" أنّهم إذا قضوا على مقاومة المسلمين، ونقاط مقاومتهم، وإرادتهم في المقاومة، وأرواحهم، فسيتمكنون من إزالة أكبر عقبةٍ تقف في طريق هيمنتهم الظالمة على العالم. لكنّ المسلمين سيقاومون.
سيُثور المسلمون فقط ضدّ جميع أشكال الطغيان والعبودية، وسينقذ المسلمون وحدهم كرامة الإنسانية.
وقد أثبتت مقاومة غزة، والنضال المُذهل للمقاومة فيها، صحة ذلك.
يجب تحويل هذه المقاومة إلى نهضةٍ ووجودٍ حقيقي.
فعندما يُبنى عالم إسلامي، يمكن للبشرية أن تعيش حياةً إنسانيةً كريمة، ويمكن للجميع أن يعيشوا وفقًا لمبادئهم الخاصة في عالمهم الخاص تحت سماء واحدة.
لقد أثبتت مقاومة غزة، وبشكلٍ قاطع هذه المرة، أنّ الإسلام وحده -من خلال المسلمين الحقيقيين المؤمنين المُخلصين- هو القادر على إرساء قواعدٍ ثابتة لحياة كريمة يعيش فيها يعيش فيها الجميع بحرية ويستفيدون من بعضهم البعض.
لقد أثبتت لنا أنّ المسلمين هم وحدهم القادرون على حفظ كرامة الإنسان وصونها، حتى في أصعب الظروف.
مدرسة الوعي الحضاري (MTO) وركيزتا القبة الحضارية
إنّ إعادة بناء قبة حضارة حقيقية يتطلب وضع أسس فكرية متينة. ولتحقيق هذا الهدف، تأسّست "مدرسة الوعي الحضاري (MTO)، التي تضمّ أكثر من 52 ألف طالبٍ في 81 ولايةً تركيةً وأكثر من 60 دولةً. وبذلت هذه المدرسة جهدًا استثنائيًا لوضع الأسس الفكرية لبناءٍ حضاريٍ طويل الأمدٍ وشاقٍ.
أودّ أن أُقدّمَ هنا إطارًا نظريًا قصيرًا وجامعًا وملهماً للتفكير أعتقدُ أنّه يُمكن من خلالهِ شرحُ كيفيةِ بناءِ الحضارةِ وسماء أفكارها، بحيثُ تُمكِّنُ الإنسان من العيش حياة إنسانية كريمة، تسود فيها قيم السلام والأمان والتبادل والتعاونِ الأخويّ.
تُبنى الحضارات من خلال التواصل، الداخلي والخارجي.
تبدأ رحلةُ بناءِ الحضارةِ بخطوةٍ أساسيةٍ تتمثلُ في الاتصال الداخليّ مع المصادرِ المؤسّسةِ للحضارةِ نفسها، اتصال مباشرٌ مُثمرٌ يُتيحُ لهذه المصادرِ أن تُنيرَ مسارَ هذه الرحلة. هذه المرحلة هي رحلة بناء الذات. رحلةٌ صعبةٌ لكسر الأمواج وتحويل العالم إلى عالمِها الخاصّ، ووضعِ بصمةِ الحقيقةِ على الحياةِ، وإحياءِ الحقيقةِ في العقلِ واللغةِ والسلوكِ: إنها عمليةُ مكة.
بهذه الطريقة تأسست أسس العقل واللسان والشخصية الإسلامية في مكة المكرمة.
فمن خلال تربية النفس وتزكيتها، يصبح الفرد قادرا على الانطلاق في رحلة داخلية لبناء عالم خاص به، فمن لا يستطيع بناء عالم داخلي، لا يستطيع بناء عالم خارجي.
ثم تبدأ مرحلةُ التواصل الخارجيّ على المستويين الجزئي والكلي. وتُشكل رحلات التواصل الخارجي على هذين المستويين البعدين الأساسيين للرحلة في عملية الآفاق.
على المستوى الجزئي تُبنى المدينة المنورة. تشكل المدينة المنورة أرضية خصبة للحياة الإسلامية، حيث تترسخ جذور الحياة المسلمة خطوة بخطوة.
تُبنى أمواج جديدة، وتصبح الحقيقة جزءا من الحياة الواقعية. وتصبح الحقيقة التي ظهرت في مكة حياة في المدينة المنورة.
أما على المستوى الكلي، فيتم التواصل مع جميع الحضارات، والاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه مع غربلة ذلك من خلال غربال الوحي، وفهمه، وجعله جزءا من ثقافتنا. وخلال هذه العملية من التواصل الخارجي، نقدم أيضا ما يمكننا تقديمه إلى الحضارات الأخرى.
وبعد إتمام التواصل الخارجي على المستوى الجزئي والمستوى الكلي، يكتمل بناء الحضارة. فبفضل العقل المسلم واللغة والشخصية التي بنيت في مكة، وأرضية الحياة الإسلامية التي بنيت في المدينة المنورة، يمكن بناء عالم حقيقي في مسار الحضارة، وجعل "الزمن الإسلامي" هو زمن العالم بأكمله. تصبح الحقيقة موجة مقاومة ونهضة ووجود أساسية لا يمكن للإنسانية التخلي عنها، ولا تستطيع العيش بدونها. تقدم الحقيقة الحياة وتصبح نفسا للبشرية جمعاء وللوجود كله.
مدرسة الوعي الحضاري "MTO " في ألمانيا
سافرتُ إلى ألمانيا الأسبوع الماضي لمدة ستة أيام مع أربعة إخوة من أعضاء فريق إدارة "MTO ". دخلنا من برلين وغادرنا من فرانكفورت، وقلبنا ألمانيا رأسا على عقب -إن صح التعبير-.
الحمد لله، لدينا طلاب من مدرسة الوعي الحضاري "MTO" في كل دولة أوروبية وفي كل مدينة في أوروبا وألمانيا. ينظم طلاب "MTO " قراءات منتظمة وبرامج متنوعة في جميع أنحاء ألمانيا، بما في ذلك المدن الكبرى.
استقبلنا طلاب مدرسة الوعي الحضاري في مطار برلين بالزهور.
لقد كانت رحلة رائعة وممتعة، حيث عشنا روح MTO وأخوتها بكل ما تحمله من معنى.
من الآن فصاعدا، ستشهد "MTO " في أوروبا وألمانيا نهضة عظيمة.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذه الرحلة الجميلة التي شرعنا فيها من الرحلات المميزة المسجلة في التاريخ، وأن يفتح لنا الطريق لتنشئة أجيال رائدة مشرقة تغير مصير بلدنا وجغرافيتنا المظلومة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس