د. سمير صالحة - أساس ميديا
قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل أيام وهو يعلن تدشين نزول سفينة حربية تركية جديدة إلى المياه الإقليمية: “نحن ندرك أنّنا بحاجة إلى امتلاك قوّة بحريّة قويّة وفعّالة في وطننا الأزرق وفي المناطق الجغرافية البعيدة من أجل العيش بسلام في أراضينا”. فهل كان يعلن رسمياً انضمام تركيا إلى “حروب الممرّات” من خلال تأسيس قوّة بحرية عسكرية “كبرى”، أو جيش بحريّ في المنطقة؟
تركيا رقم صعب في معادلة الممرّات التجارية العالمية. هي مركز الثقل في الخطّ الصيني باتّجاه أوروبا، خصوصاً بعدما تراجعت فرص موسكو في تحريك ورقة الممرّ الشمالي في أعقاب الحرب في القرم. كما تستفيد من جلوسها أمام الممرّ الأوسط الذي يعبر أراضيها ليكون أقصر مسافة وأقلّ تكلفة إذا ما قورن بالممرّين الشمالي والجنوبي، إلى جانب كونها بذلت جهداً سياسياً كبيراً لبناء “ممرّ زنغزور” الواقع بينها وبين أذربيجان مروراً بأرمينيا، لتعزيز مكانتها الإقليمية وحصّتها في التجارة العالمية التي تمرّ عبر الأراضي الأوروآسيوية. وحرصت أخيراً على المشاركة في أكثر من مشروع إقليمي تجاري يعيد لها ما فقدته في الأعوام الأخيرة يتقدّمها خطّ التنمية العراقي.
من يسيطر على البحار… يسيطر على العالم
ذكّر إردوغان أيضاً بمقولة البحّار العثماني المعروف خير الدين بربروس وهو يتحدّث عن حوض المتوسّط: “من يسيطر على البحار يسيطر على العالم”. لهذا قد تكون لاستراتيجيات السيطرة على البحار أهمّيتها، والمعنيّ أكثر اليوم إلى جانب الثروات الطبيعية في عمق البحار هو السيطرة على الممرّات والمضائق والقنوات والبوّابات والجزر البحرية التي تربط البحار بعضها ببعض وتقرّب بين اليابسة في القارّات.
قال السفير الأميركي في أنقرة جيف فليك إنّ تركيا دولة مهمّة في زمن السلم، لكنّها مهمّة في زمن الخضّات والاهتزازات السياسية والأمنيّة في العالم أيضاً، في تعقيب له على جهود الوساطات التركية المبذولة على أكثر من صعيد. لكنّ الدبلوماسي الأميركي يعرف أكثر من غيره أنّ أسباب التباعد بين البلدين في ملفّات الممرّات التجارية الإقليمية والدولية عديدة ومتشعّبة، وأنّها تحتاج إلى الكثير من الجهد المتبادل للالتفاف عليها للأسباب الآتية:
1- أنقرة تتمسّك بسحب ورقة ممرّ شرق الفرات بشقّيها الأمني والجغرافي من يد الولايات المتحدة الأميركية التي تناور بها في الملفّ السوري.
2- أنقرة يمكنها أن تعرقل محاولات واشنطن الدخول سياسياً وعسكرياً إلى حوض البحر الأسود بسبب ارتدادات ذلك على التوازنات الحسّاسة القائمة هناك.
3- تحمي تركيا مسار علاقاتها مع روسيا في إطار بنود اتفاقية مونتروي للمضائق التي تحاول واشنطن الالتفاف عليها لتفجير العلاقات التركية الروسية.
4- تواجه خطط إشعال الفوضى في الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز لإضعاف النفوذ الروسي الصيني.
5- تقف في وجه إصرار واشنطن على فتح طريق التمدّد الهندي في العديد من مناطق تقاطع النفوذ التركي الروسي الصيني.
ما هي أوراق تركيا؟
تبحث تركيا عن فرص مقايضة مع أميركا وروسيا والصين: من يعطيها أكثر في ملفّات الممرّات التجارية الإقليمية فسيحظى بدعمها وشراكتها. المشكلة هي تصلّب واشنطن وموسكو وبكين في مواقفهم، وصراعهم على كسب تركيا والهند أو إحداهما على الأقلّ إلى جانبه.
العقبة أيضاً هي التموضع الإقليمي التركي الجديد الذي يقلق الحلفاء قبل الشركاء، وسط معادلات رسم وترتيب استراتيجيات مغايرة في مشاريع تركيب ممرّات تجارية عالمية.
تستفيد تركيا من جملة فرص وأوراق جيوسياسية وجيوستراتيجيّة تريد أن تلعبها:
1- تقدّم أنقرة نفسها جسر تواصل جغرافيّاً بين الشرق والغرب يحتاج إليه كلا الطرفين خلال عمليات التواصل وتبادل الرسائل.
2- تضيف إلى حظوظها الجغرافية منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية التي بنتها مع روسيا وإيران إلى جانب العواصم العربية العديدة بعد مسار تجميد الخلافات والتطبيع.
3- تحرّك أيضاً ورقة علاقاتها التاريخية والعرقية مع الجمهوريات التركية في آسيا الوسطى، التي بنت هي الأخرى شبكة علاقات متعدّدة الجوانب باتّجاه الشرق والغرب.
4- هناك حاجة لدى أكثر من لاعب إقليمي ودولي إلى الدور التركي بشقوقه السياسي والاقتصادي والعسكري على الرغم من كلّ ملفّات الخلاف والتباعد.
هدف تركيا هو التذكير بجغرافيّتها وموقعها البرّي والبحري بين آسيا وأوروبا، ولفت الانتباه إلى منظومة العلاقات التي بنتها مع الدائرتين الثانية والثالثة المحيطتين بها واللتين وصلتا إلى عمق القارّة السمراء وسواحل البحر الأحمر وشمال إفريقيا. والجسر التركي الجغرافي وموقع أراضي تركيا كمركز لوجستي وخطّ ترانزيت يسهّلان العبور والتوقّف واختصار الوقت والمسافات، بعكس الخطّين الصيني والهندي اللذين يحتاجان إلى وقت يراوح بين 22 و30 يوماً، فيما الخطّ التركي يحتاج إلى 12 يوماً كحدّ أقصى. وذلك في رحلة نقل وإيصال بضائع الأسواق البعيدة التي ستقرّب بين آسيا وأوروبا.
ليس هدف أنقرة لوجستيّاً فقط باتّجاه تسهيل عبور ووصول البضائع بين قارّتين، بل المشاركة في عمليات التصنيع والتمويل وبناء الخطوط التجارية وتوفير حمايتها أيضاً.
لماذا تختار أميركا تركيا لا الهند؟
فرحت أنقرة بقرار واشنطن دعم مشروع خطّ أنابيب “إيست ميد” لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا. لكن تبيّن أنّ الهدف الأميركي هو فتح الطريق أمام الهند للتوغّل إقليمياً على حساب تركيا لقلب كلّ المعادلات. يعرف صانع القرار الأميركي القيمة الاستراتيجية الإقليمية لتركيا بين الشرق والغرب، ومع ذلك يختار اللاعب الهندي.
حظوظ تركيا في حماية حصّتها وموقعها ودورها قائمة على الرغم من كلّ محاولات العرقلة الإسرائيلية والإيرانية والغربية. فالممرّ الأوسط الذي يدور الحديث عنه يقع في قلب جغرافيّتها ومناطق نفوذها بين آسيا وأوروبا، حيث تعبر 53 في المئة من التجارة العالمية. لكنّ سبب الانزعاج التركي هو احتمال ولادة ممرّات تجارية وخدماتية ومشاريع استثمار بقرار أميركي لن تكون لها أيّ حصّة أو دور فيها. ما يقلق أنقرة هو أن تذهب واشنطن باتجاه توحيد الشركاء الجدد ضدّها تحت ذريعة كونها المعرقل وواضع العصيّ في دواليب عجلة التحرّك الإقليمي الأميركي.
حرب غزّة غيّرت كلّ شيء
كان الرئيس التركي يعلن بعد لقاء انفتاحيّ جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مطلع تشرين الأول المنصرم وقبل أيام من اندلاع الحرب في قطاع غزة على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أنّ تركيا تتطلّع إلى التعاون والتنسيق مع إسرائيل في موضوع التنقيب عن الطاقة ونقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.
سينتظر إردوغان طويلاً بعد الآن بسبب المتغيّرات والتحوّلات والتباعد التركي الإسرائيلي من جديد. جهود العودة إلى “تصفير المشاكل” ليست موضوع الساعة، وما يتقدّم بفارق شاسع هي سيناريوهات التصعيد والانفجار على أكثر من جبهة.
كانت أنقرة تتطلّع أيضاً من خلال انفتاحها الجديد على تل أبيب باتّجاه جنوب القوقاز وممرّ زنغزور – يالشين بين إقليم نهشفان وأذربيجان الذي يمرّ عبر الأراضي الأرمينية وعلى مقربة من الحدود الإيرانية. لكنّ انفجار الوضع الإقليمي أسقط هذه الورقة من يد أنقرة وتل أبيب معاً.
مصالح إيران وروسيا وأميركا وأوروبا التقت هنا لعرقلة هذا المشروع الجيوستراتيجي الذي سيربط أوروبا بآسيا الوسطى والصين عبر طريق أذربيجان وتركيا. لكنّ النتيجة أيضاً هي تراجع سيناريوهات التقارب التركي الإسرائيلي الذي كانت أولى نتائجه في الجانب التركي عرقلة مشروع الخطّ التجاري الهندي الذي وصفه الرئيس الأميركي بأنّه “صفقة كبيرة حقيقية” و”استثمار يغيّر قواعد اللعبة”.
إسرائيل غاضبة. فهي تدفع ثمن خسارتها في جنوب القوقاز ورهانها على شراكتها التجارية مع روسيا التي تعطّلت أيضاً بسبب الحرب في القرم. وها هي اليوم تعاني جمود المشروع الهندي الذي قال نتنياهو إنّ إسرائيل ستكون “مفترق طرق مركزيّاً” في المشروع.
كانت جدّة أحد الأصدقاء تقول: “كلّما طالت… تلمّ الغبار”. معادلة “خاسر – خاسر” في الإقليم هي التي تتقدّم وتسود… كلّما زادت الحروب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس