ترك برس
وقعت الولايات المتحدة مع حكومة قبرص الرومية، أواسط سبتمبر/ أيلول الماضي، اتفاقاً حمل عنوان "خريطة الطريق للتعاون الدفاعي الثنائي"، يشير إلى أن العلاقات بين الطرفين، التي ازدادت خلال السنوات الأخيرة، في طريقها خلال الفترة المقبلة للتقدم إلى أبعد من ذلك، في حين تتجه الأنظار إلى تركيا بصفتها الضامنة لقبرص التركية، لا سيما وأنها تنظر بعين الريبة إلى العلاقات بين واشنطن والشطر الرومي من الجزيرة.
لم يكن هذا الاتفاق مرضياً لـ"جمهورية شمال قبرص التركية"، التي دانته بشدة، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته أنقرة، ودعت واشنطن إلى إعادة النظر في موقفها من شمال قبرص. وأصدرت الخارجية التركية بياناً شديد اللهجة قالت فيه "إننا ندين التوقيع على خريطة الطريق بين الولايات المتحدة والإدارة القبرصية اليونانية لتطوير التعاون في مجال الدفاع، ونشاطر وجهات النظر التي عبر عنها في البيان الصادر عن وزارة خارجية جمهورية شمال قبرص التركية في شأن هذه القضية".
وأكدت الخارجية التركية "تأييدها بالكامل رد الفعل المبرر الذي قدمته سلطات جمهورية شمال قبرص التركية، إذ إن هذه الخطوات التي اتخذتها السلطات الأميركية على حساب أمن الجانب القبرصي التركي، تقوض الموقف المحايد للولايات المتحدة تجاه جزيرة قبرص وتجعل من الصعب التوصل إلى تسوية عادلة ودائمة ومستدامة للقضية القبرصية، وفي هذا السياق نعتقد أنه يجب إعادة النظر في السياسات التي قد تضر بالاستقرار الإقليمي"، بحسب تقرير لـ "اندبندنت التركية".
تغير في سياسة واشنطن
منذ عام 1987 بدأت الولايات المتحدة في فرض حظر على تصدير الأسلحة إلى إدارة الجمهورية القبرصية (اليونانية)، والهدف من ذلك كان محاولة فرض حل سلمي ونهائي للجزيرة، واستمر الموقف الأميركي ثابتاً كما هو لعشرات السنين حتى عام 2019.
قبل خمسة أعوام كانت واشنطن تتبع "سياسة التوازن" التي بدأتها منذ سبعينيات القرن الماضي، وبالفعل شاركت بنشاط في جهود حل القضية القبرصية من وقت لآخر، لكن هذا الحال تغير تدريجاً وبدا واضحاً انحياز الموقف الأميركي لصالح قبرص اليونانية ضد نظيرتها الشمالية أو "قبرص التركية".
بالعودة للوراء في تاريخ قبرص، وضعت الجزيرة بالكامل تحت إدارة بريطانيا عام 1878، ثم في عام 1914 أعلنت لندن ضم قبرص إلى أراضيها بشكل رسمي، وهذا لم يرض الأتراك الذين وصل بهم الأمر إلى المطالبة بضم كامل قبرص إلى الأراضي التركية باعتبارها امتداداً للأناضول على رغم أن الأتراك لا يشكلون إلا 18 في المئة من إجمالي سكان الجزيرة.
في الوقت ذاته كان القبارصة اليونانيون والكنسية الأرثوذكسية تدعو إلى ضم قبرص إلى اليونان، وهذا ما شكل أزمة بين الطرفين، قبرص تحت الحكم البريطاني وآخرون يدعون إلى ضمها إلى تركيا، وطرف ثالث ينادي بضمها لليونان، لكن في نهاية المطاف حصلت الجزيرة على استقلالها عام 1960، إلا أن الوضع لم يهدأ إلا سنوات قليلة قبل أن تبدأ أحداث العنف العرقي والطائفي بين عامي 1963 و1964. وبسبب مزيد من العنف ومحاولة انقلاب في قبرص اليونانية غزا الجيش التركي قبرص في الـ20 من يوليو (تموز) 1974 حتى انتهى الأمر لاحقاً بإعلان "جمهورية شمال قبرص التركية"، التي لم يعترف بها أحد سوى أنقرة.
اتفاقات بالجملة
على الموقع الإلكتروني الرسمي لوزارة الخارجية الأميركية، وتحت عنوان "العلاقات الأميركية - القبرصية"، يكشف تقرير عن أن واشنطن أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهورية قبرص عام 1960، أي مباشرة بعد استقلالها عن بريطانيا. وفي الموقع أيضاً يتم تضمين رأي الولايات المتحدة بأن "الوضع في جزيرة قبرص غير مقبول، وأن الولايات المتحدة تدعم الجهود الرامية إلى إيجاد حل شامل لضمان إعادة توحيد الجزيرة كاتحاد فيدرالي ثنائي المنطقة وثنائي الطائفة".
وتدعو واشنطن إلى البحث عن حل لقضية الجزيرة، في المقابل يصل التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وقبرص اليونانية إلى مستوى تاريخي تم تدريجاً منذ "إعلان النوايا في شأن التعاون الأمني الثنائي"، قبل نحو ستة أعوام من الآن، كما أدرجت جمهورية جنوب قبرص في البرنامج الأميركي الدولي للتعليم والتدريب العسكري. وفي 2019 رفعت القيود على مبيعات الأسلحة من قبرص وإليها، كما أجرت تدريبات ومناورات عسكرية، وتوجت هذه الخطوات في 2023 بتوقيع اتفاق "التعاون الدفاعي الثنائي".
عندما جرى تقديم مقترح رفع حظر الأسلحة عن قبرص اليونانية إلى الكونغرس الأميركي في 2019 اعتمده من دون تأخير، وتضمن القانون حينها تقديم مساعدات عسكرية تشمل أسلحة، واعتماد نهج يشجع التعاون بين الولايات المتحدة وقبرص اليونانية وإسرائيل، وتم استبعاد تركيا، وكان هذا القانون يشمل "رفعاً جزئياً" للحظر، ولمدة عام واحد، لكن لاحقاً مدد مع إضافة رفع كامل الحظر، ولعب وزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو والسيناتور بوب مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ دوراً مهماً في اعتماد القانون.
ما الذي غير الموقف الأميركي؟
تغيير السياسة الأميركية تجاه قبرص يتناقض مع اتفاقات 1960، ويتجاهل الوضع القائم في شمال الجزيرة، لكن هناك أسباب واحتمالات عدة ربما دفعت الولايات المتحدة لاتباع سياسية جديدة.
الاحتمال الأول هو محاولة واشنطن تقويض النفوذ الروسي المكثف في قبرص اليونانية، ومنع موسكو من استخدام الجزيرة كقاعدة عسكرية ومالية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
الاحتمال الثاني يتمثل في الذهاب إلى ما هو أبعد من منع النفوذ الروسي، واستخدام الجزيرة في سياق سياسة تطويق موسكو من هذه الجهة، إلى جانب الحرب الأوكرانية التي تشكل هي الأخرى أزمة كبيرة بالنسبة إلى روسيا.
والاحتمال الثالث هو العامل الإسرائيلي، إذ إن زيادة العلاقات العسكرية - الأميركية مع الإدارة القبرصية، وإنشاء هيكل مماثل للقواعد البريطانية في الجزيرة، التي لها أهمية جيواستراتيجية كبيرة، سيسهم في إيصال المساعدات من قبرص إلى إسرائيل عند الضرورة.
فشل سياسة الاحتواء
من الأسباب الأخرى للسياسة الأميركية الجديدة، هو تطور العلاقات التركية - الروسية، بعد أن تخلت واشنطن عن "سياسة الاحتواء" لتصرفات أنقرة، وباتت تنظر إليها في بعض القضايا على أنها "رجعية وعنصر مزعزع للاستقرار في المنطقة خصوصاً في مناوشاتها مع اليونان وجمهورية قبرص"، وهذا دفع واشنطن إلى تطوير التعاون العسكري مع أثينا ونيقوسيا، ومما يدعم هذه النظرية هو أن تطوير التعاون الأميركي مع اليونان تزامنت في الفترة نفسها التي غيرت واشنطن سياستها تجاه قبرص، ودعمت القبارصة اليونانيين على حساب الأتراك.
وعلى رغم كل هذا دائماً ما يكرر المسؤولون الأميركيون تصريحاتهم لتبرير موقفهم بالقول إن "العلاقة الاستراتيجية التي أقامتها الولايات المتحدة مع حكومة قبرص والخطوات المتخذة في مجال التعاون الدفاعي بين الطرفين لا تستهدف أي طرف ثالث"، لكن من وجهة النظر التركية فإنه مهما كان الغرض من هذا التعاون، فإن السياسة الأميركية التي تغيرت لا تسهم في السلام وتقوض جهود حل قضية الجزيرة.
بالنسبة إلى تركيا قد تكون لديها أسباب معقول لتقول إن الخطوات الأميركية لا تسهم في السلام، وهذه الأسباب تتمثل في "تقوية" موقف قبرص، إذ هي بالأصل تتمتع بعضوية الاتحاد الأوروبي، بخلاف شمال قبرص وتركيا، كما أنها تعد الممثل الوحيد المعترف به بكامل الجزيرة، وهذا الموقف القوي يدفعها لرفض الحوار مع "جمهورية شمال قبرص التركية"، كون مثل هذه الخطوة ستعني "تقديم تنازلات".
من جانب آخر الدعم العسكرية الأميركي لجنوب قبرص بأسلحة أكثر حداثة، سيزيد من قوتها العسكرية، وقد ينتج من ذلك موقف أكثر تشدداً وأكثر استفزازاً بالنسبة إلى قبرص الشمالية، لذلك فإن الاعتراض التركي أيضاً له أسبابه.
قبول ضمني للوضع القائم في الجزيرة
الدبلوماسي والسفير المتقاعد توغاي أولوتشيفيك، كرس سنوات حياته في دراسة القضية القبرصية من جوانبها كافة، حتى بات مختصاً ومرجعاً فيها، يقول تعليقاً على الخطوات الأميركية الأخيرة، "واشنطن تقول إنها تعترف بجمهورية قبرص التي تأسست عام 1960، وتدير علاقاتها معها على هذا الأساس، وتعتبر اتفاق الاستقلال عام 1960 هو المرجع الأساس في هذا الشأن، من حيث المبدأ هذا أمر جيد، وهو الوضع القانوني الذي يجب أن يتم، لأن الاتفاق تضمنت دستوراً للبلاد، هذا الدستور أنشأ هيكلاً وتنظيماً للدولة الجديدة يعتمد على "الشراكة التأسيسية" بين الطائفتين التركية والقبرصية اليونانية.
وفق الدستور فإن أجهزة الدولة تتكون من الأتراك واليونانيين وفقاً للنسب التي نص عليها، إذ يكون رئيس الدولة يونانياً ونائب الرئيس تركياً. ونص أيضاً على ضرورة مشاركة كلتا الطائفتين في اتخاذ جميع القرارات في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفي تشكيلة الحكومة كان هناك سبعة وزراء يونانيين وثلاثة أتراك في مجلس الوزراء المؤلف من 10 حقائب، وكان وزراء الدفاع والصحة والزراعة أتراكاً وبقية الوزراء يونانيون، وبالنسبة إلى القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية للبلاد يجب اتخاذها بموافقة كل من الرئيس ونائه.
هذا الدستور "دستور الطوائف" كان مرضياً عنه بالنسبة إلى الأتراك، كونهم في هذه الحالة يحصلون على حقوقهم كاملة كشركاء أصليين من سكان الجزيرة، لكن بعض اليونانيين كانوا يرفضون وجود الأتراك بالحكومة، وحصلت أحداث العنف الشهيرة التي انتهت بانقلاب أسفر عن تدخل عسكري من الجيش التركي، الذي بدوره فرض واقعاً جديداً لا يزال قائماً حتى اليوم، وخلال كل تلك السنين يبقى التوتر هو سيد الموقف، وبقيت الجزيرة من دون حل طوال 50 عاماً، وفقاً لأولوتشيفيك.
في عام 2004 قدم الأمين العام للأمم المتحدة الراحل كوفي عنان خطة "الحل الفيدرالي"، بموافقة رسمية من مجلس الأمن الدولي، وقدمت الخطة لموافقة الشعبين من خلال استفتاءين منفصلين في نفس اليوم على جانبي الجزيرة، وكانت النتيجة أن 65 في المئة من الأتراك صوتوا لصالح الخطة، بينما صوت اليونانيون ضدها بغالبية، وفقط 24 في المئة من اليونانيين أيدها، لذلك فشلت الخطة، وبقي الوضع كما هو حتى اليوم، دولتين منفصلتين بطائفتين مختلفتين في جزيرة واحدة.
دولة واحدة وسيادتين
فشل خطة كوفي عنان جعل الولايات المتحدة تقبل بالوضع الراهن للجزيرة، وتمكنت من مواصلة اتصالاتها ومباحثاتها مع الجانب القبرصي التركي من دون الاعتراف بجمهورية الشمال على افتراض استمرار البنية الدستورية ذات الطائفتين لـ"جمهورية قبرص" والمستمدة كما أسلفنا من اتفاق ودستور 1960، لكن تزامناً مع ذلك استمرت واشنطن في سياستها الداعية إلى إيجاد حل للصراع القبرصي ضمن إطار الأمم المتحدة، ومع هذا أبرمت اتفاقاً أمنياً مع جمهورية قبرص اليونانية، ولم تقم بالخطوة ذاتها مع الجانب الشمالي على اعتبار أنه حكومة غير معترف بها، وتتعامل مع الجنوب على أنها حكومة رسمية معترف بها تمثل القبرصيين كافة على رغم أن كامل الحكومة يونانيون، وهو ما يخالف دستور 1960 الذي لا تزال واشنطن تعتمد عليه.
ويعني ذلك أن واشنطن تعترف رسمياً بقبرص واحدة، وعملياً تقبل وجود دولتين منفصلتين مستقلتين لكل منهما سيادتها، وهنا وجب التنويه على أن الاتفاقات الأمنية والعسكرية والدفاعية مع الولايات المتحدة ستكون صالحة وتنفذ مع قبرص (الجنوب)، ولا تشمل هذه الاتفاقات بأي شكل من الأشكال الشمال.
برميل بارود
باختصار يمكننا القول إن قبرص بعد استقلالها كانت بمثابة "برميل بارود"، يمكن أن ينفجر بأية لحظة، وهذا ما حصل بالفعل بعد سنوات قليلة من الاستقلال، وأسفر عن أعمال عنف راح ضحيتها عشرات الآلاف من اليونانيين والأتراك على حد سواء. والتدخل العسكري التركي، الذي تسميه أنقرة "عملية السلام التركية" التي نفذت عام 1974 فرضت واقعاً جديداً، وعلى رغم المعارضة الدولية لهذه العملية إلا أنها أعادت الهدوء المستمر في الجزيرة لليوم، وهذا الهدوء انعكس على أمن دول شرق البحر المتوسط، لأن التدخل العسكري في ذلك الوقت كان مهماً لضمان التوازن العسكري في الجزيرة، وهو ما يتوافق مع المطلب الأميركي، إذ سبق أن أكد المسؤولون الأميركيون أن "الحفاظ على التوازن العسكري في الجزيرة قد يسهم في إعادة توحيدها".
على رغم هذا تؤدي الخطوات الأميركية خلال السنوات الأخيرة إلى عدم الحفاظ على التوازن العسكري، ويقوي موقف الجنوبيين، خصوصاً القرارات المتعلقة برفع حظر الأسلحة، فهذا في شأنه خلق واقع جديد، فحتى لو أن الهدف الأميركي ليس من أجل الضغط على قبرص الشمالية مهما كان الهدف فإن حكومة قبرص الجنوبية قد تستغل الموقف الأميركي لصالحها. وإذا حصل هذا فإن الولايات المتحدة وجمهورية قبرص سيكونان في مواجهة مع تركيا العضو في "الناتو" والحليف لواشنطن، على رغم ذلك من الخطأ التعجيل بإطلاق التنبؤات والمبالغة في ما يجري، إلا أن عالمنا اليوم متوتر بشكل غير مسبوق، والمفاجآت فيه لا تتوقف.
الورقة الرابحة
إقامة علاقات بين واشنطن ونيقوسيا لا يضر فقط الجانب التركي لقبرص، وإنما سيكون له انعكاسات سلبية على طرفي الجزيرة، وسيشكك في سيادتهما التي يصر كل منهما عليها.
من جانب آخر فإن إقامة علاقات عسكرية بين جمهورية قبرص والولايات المتحدة يمكن أن يعيد للواجهة مسألة عضوية قبرص في "الناتو".
بالنسبة إلى تركيا فإن قضية قبرص ورقة رابحة تملكها، وإذا أرادت استثمارها بشكل جيد لا ينبغي على أنقرة تكرار الأخطاء التي ارتكبتها مع اليونان، خصوصاً أن موضوع قبرص لا يمكن أن يحل بأي شكل من الأشكال من دون الدور التركي الضامن للاستقرار في شرق المتوسط، كما أن أي توتر أمني سينعكس على الرخاء الاقتصادي المتوفر نسبياً في الجزيرة، أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فقد تتجه لوضع بيان الخارجية التركية في الاعتبار، خصوصاً الدعوة إلى مراجعة تقييم الموقف الأميركي من الجزيرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!