ترك برس
تناول مقال تحليلي للكاتب والباحث في الشؤون التركية سمير العركي، أسباب توجيه الرأي العام التركي أصابع الاتهام إلى إسرائيل بشأن الهجوم الإرهابي الذي استهدف شركة “توساش” للصناعات الجوية والفضائية.
وقال الكاتب: "لعلها المرة الأولى التي يستهدف فيها هجوم إرهابي، إحدى شركات الصناعات الدفاعية التركية، بهذه الشراسة التي استُهدفت بها شركة “توساش” للصناعات الجوية والفضائية في العاصمة أنقرة، التي تعرضت لهجوم مزدوج بالقنابل والرصاص، خلّف قتلى وجرحى".
وأوضح العركي في مقاله بموقع الجزيرة مباشر أن الشركة المستهدفة، تعد إحدى أهم شركات الصناعات الدفاعية في تركيا والعالم، فهي تحتل المرتبة 58 ضمن قائمة أفضل 100 شركة تعمل في هذا المجال.
وتساهم هذه الشركة في تزويد القوات المسلحة التركية، بأنواع مختلفة من الطائرات، لكن درة إنتاجها -التي لا تزال قيد التطوير والتصنيع- هي المقاتلة “قان”، التي تنتمي إلى الجيل الخامس من الطائرات، وتضاهي الطائرة الأميركية إف 35. يقول العركي.
وأضاف الكاتب: لذا -وبعيدا عن تفاصيل الهجوم التي سيتم الكشف عنها تباعا- فإن الهجوم طرح العديد من الأسئلة بشأن الجهة التي تقف خلفه، ومدى ارتباطه بالمبادرة التي طرحها زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، لحل المسألة الكردية، وإغلاق ملف حزب العمال (PKK) نهائيا، وتأثير الهجوم فيها.
وكذلك فإن أسئلة ما بعد الهجوم، تناولت العلاقة بينه وبين مشاركة الرئيس، رجب طيب أردوغان في أعمال قمة بريكس بقازان الروسية، كما تناولت مدى إمكانية إفضائه إلى عملية عسكرية تركية موسعة في شمالي سوريا والعراق.
وتابع المقال:
تعاني تركيا من الهجمات الإرهابية منذ حوالي أربعة عقود، وغالبا ما كان يتم توجيه الاتهامات بها إلى تنظيم حزب العمال الانفصالي، أو تنظيمات أخرى يسارية متطرفة قريبة منه.
لكن هذه المرة توجهت أصابع الاتهام فورا على المستويين الشعبي والإعلامي على الأقل حتى الآن، إلى إسرائيل، رغم التعرف على صورة أحد الإرهابيين المنفذين، الذي اتضح انحداره من ولاية شرناق الحدودية، وثبت انتماؤه للتنظيم المحظور.
وفي تقديري أن ثمة أسباب وجيهة، دفعت إلى تشكل ذلك الاقتناع، واعتبار تنظيم حزب العمال، مجرد يد منفذة فقط، بعيدا عن التخطيط والتوجيه.
هذه الأسباب تمتد من العلاقات الاستخبارية التي تربط بين إسرائيل والتنظيم، وصولا إلى التراجع الحاد في العلاقة التركية الإسرائيلية، بسبب التدابير التي اتخذتها أنقرة، عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ولبنان.
ويبدو أن ثمة توقعات كانت لدى أنقرة بإمكانية حدوث مثل تلك الهجمات الإرهابية، حيث كرر أردوغان تحذير وتنبيه الرأي العام الداخلي، من تداعيات عدوان إسرائيل على أمن وسلامة الداخل التركي.
هذا السلوك لم يقتصر على أردوغان، بل امتد إلى حليفه، دولت بهتشلي، الذي قال بوضوح في الثامن أكتوبر/تشرين الأول الجاري: “القضية اليوم ليس بيروت بل أنقرة، والهدف النهائي هو الأناضول”.
ومما يعزز وجود أياد خارجية وراء الهجوم، وخاصة الإسرائيلية، هذه الطفرة التي رأيناها في أسلوب حزب العمال، الذي كان عادة ما يستهدف العناصر والمقرات الأمنية والعسكرية، دون تنفيذ مثل هذه العمليات النوعية.
فمصنع مهم للصناعات الدفاعية مثل “توساش”، يعد هدفا مثاليا لجهات خارجية معادية لتركيا مثل إسرائيل، التي تعمل حاليا على هدم مراكز القوة التقليدية في المنطقة، ومن الصعوبة بمكان تصور أن يكون المصنع هدفا لتنظيم إرهابي محلي.
من هنا فإن العلاقة التي تربط تل أبيب بالتنظيم، توفر لإسرائيل جهة تنفيذ داخل تركيا، دون تورط الدولة العبرية في تلك العمليات، وتضطر لاحقا إلى دفع فاتورة ذلك التورط.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن عددا من مهندسي شركة أخرى مهمة للصناعات الدفاعية وهي شركة “أسيلسان”، فقدوا حياتهم في الماضي، في حوادث سير غامضة، لكن الاستهداف الحالي كان مباشرا ودمويا؛ مما يطرح تساؤلات جدية بشأن الغرض من الهجوم.
فهل كان الهجوم لمجرد إشغال تركيا، وتمرير رسالة مضادة من تل أبيب، تقضي بدعم تنظيم حزب العمال، ردا على دعم أنقرة الإعلامي والسياسي للمقاومة داخل فلسطين المحتلة؟
أم أن الهجوم كان يهدف إلى ضرب مشروع المقاتلة الوطنية أو تعطيله على الأقل، من خلال استخدام حزب العمال، ليبدو الحادث ضمن سياق الصراع التقليدي بين الدولة التركية وبين التنظيم الإرهابي؟
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، سيحتاج إلى انتظار نتائج التحقيقات، إلا أن الثابت أن هذا التطور العملياتي يتجاوز قدرات التنظيم المسلح، من حيث التخطيط واختيار الهدف.
فاجأ زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، الرأي العام التركي، بمبادرة تاريخية غير مسبوقة، إذ دعا الزعيم التاريخي المؤسس لحزب العمال، عبد الله أوجلان، إلى إلقاء كلمة أمام الكتلة النيابية لحزب المساواة الشعبية والديمقراطية (DEM) -وهو حزب كردي يساري- يعلن فيها حل حزب العمال، وإلقاء السلاح نهائيا؛ مما يعني إغلاق ملف الإرهاب في تركيا إلى الأبد، مقابل العفو عن أوجلان، الذي يقبع في أحد السجون التركية، وقد حُكم عليه بالإعدام.
هذه المبادرة أقامت تركيا ولم تقعدها حتى اللحظة، لجرأتها وبسبب صدورها من الأب الروحي للقوميين الأتراك، الذي كان صاحب موقف حادّ من أي سيناريو مشابه.
لكن يبدو أن الظروف الأمنية التي تمر بها المنطقة، أدّت الدور الأساسي في ذلك التحول الإستراتيجي.
من هنا ربط البعض بين تلك الدعوة وبين الهجوم الإرهابي على مصنع “توساش”، معتبرين إياه ردا عمليا رافضا من التنظيم المسلح وقياداته في جبال قنديل بالعراق، على المبادرة.
لكن هذا الربط لا يمكن القبول به، إذ إن الفاصل بين إطلاق المبادرة وحدوث الهجوم، لم يتعدَّ أربعا وعشرين ساعة، وهي مدة زمنية غير كافية للرفض واتخاذ قرار الهجوم وتحديد الهدف بكل هذه الدقة.
وكذلك فإن التصريحات التي أعقبت الهجوم من كل من بهتشلي، وحزب المساواة والمشاركة الشعبية، عكست رغبة الطرفين في الحفاظ على الأجواء الإيجابية التي أعقبت إعلان المبادرة.
فبهتشلي وصف في بيان، منفذي الهجوم، بأنهم “قتلة مأجورون” في تلميح إلى كونهم يعملون لصالح جهات خارجية، مؤكدا عدم تمكن “أي مشروع دموي وغادر من الصمود ضد وحدتنا الوطنية وأخوتنا”، في إشارة إلى تضامن الأتراك والأكراد.
وتزامن الهجوم كذلك مع وجود أردوغان في مدينة قازان الروسية، للمشاركة في أعمال قمة دول البريكس؛ مما دفع البعض إلى الربط بينهما، معتبرا أن الهجوم رسالة “خشنة” إلى تركيا، لعدم المضي قدما في إجراءات الانضمام للتجمع الاقتصادي الذي تقوده روسيا والصين.
ومع أن الولايات المتحدة، لا تشعر بالارتياح لتلك الخطوة التركية، فإنه من الصعوبة بمكان أن تتورط في هجوم كهذا لثني حليفتها عن تلك الخطوة، التي لن تخصم في نهاية الأمر، من وجود تركيا وإسهاماتها في حلف الناتو، أو غيره من الفاعليات الغربية المتنوعة.
لم تنتظر أنقرة طويلا، إذ بدأت الردود في نفس ليلة الهجوم، فشنّ الجيش التركي هجوما جويا ومدفعيا مكثفا على تنظيم حزب العمال في عدة أماكن بشمال سوريا، مثل تل رفعت وتل أبيض وعين العرب (كوباني)، كما شمل القصف شمال العراق.
لذا فمن غير المستبعد توسع الرد العسكري، ليشمل عملية برية، لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري بعمق يصل إلى 30 أو 40 كيلومترا، بما يضمن إبعاد التنظيم عن الحدود تماما.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!