ياسين أقطاي - يني شفق 3/11/2024
في هذه الأيام التي نحتفل فيها بالذكرى المئوية الأولى لقيام الجمهورية، فإن النقاشات الدائرة حول العلاقة بين الأكراد والأتراك، والتي تشمل إشارات إلى ضياء غوك ألب، قد تُساهم في فتح أبواب العديد من الأسئلة التي ظلت حبيسة 101 عام. ففي خضم الاحتفالات بالجمهورية، وبين زحمة الدعاية والإعلام وحماس الاحتفالات، هناك أوهام أو تصورات تتكرر بشكل كبير لدرجة أنها أصبحت مسلّمة ولا يمكن التشكيك فيها وهي أن تاريخ هذه الأمة بدأ قبل 101 عام فقط. والحقيقة هي أن الجمهورية لم تُنشئ هذه الأمة، بل فتحت صفحة جديدة في تاريخها الذي يمتد لأكثر من ألف عام.
صحيح أن الجمهورية تبلغ من العمر 101 عامًا، ولكن هذه الأمة تمتلك تاريخاً أقدم بكثير وهوية أكثر شمولية وعالمية. وهناك مسألة أخرى مرتبطة بذلك، وهي أن هذه الأمة لم تشهد نمواً وتطوراً غير مسبوق مع قيام الجمهورية، بل على العكس، فقد تقلصت مساحتها، حيث انتقلت من كونها دولة عظمى تمتد على ثلاث قارات إلى دولة محصورة داخل الأناضول، لتقتصر على حدود أقل حتى من حدود الميثاق الوطني.
لا شك أن هذا التراجع الكبير كان نتيجة حتمية لهزيمة كبيرة في حرب عالمية، وتعبير عن انسحاب مؤلم عقب تلك الهزيمة. وبعد هذه الهزيمة، انصبَّ الجهد على حماية ما تبقى من الوطن في صراع يائس، فتم الاحتفال بالانتصارات المحققة في هذا الوطن المحرر دون التوقف للتفكير في الخسائر التي تكبدناها. وكما قال محمد أركون، فإن هذا الأمر كان من المحرمات التي لا يجوز التطرق إليها أو مجرد التفكير بها. مما أدى إلى تجاهل تام لأسباب وكيفية فقدان ما خسرناه، والتساؤل عمن يتحمل مسؤولية الإهمال والتقصير والضلالة، بل وحتى الخيانة التي قادتنا لهذه الخسائر.
وكذلك الأخوة الدينية والسياسية بين الأكراد والأتراك، لم تبدأ مع إعلان الجمهورية؛ بل على العكس، بدأت المشكلة تلوح في الأفق بعد فترة وجيزة من إعلان الجمهورية، وحتى بعد وفاة ضياء غوك ألب الذي كان يتحدث عن الأبعاد الدينية والتاريخية لهذه الأخوة، بدأت المشكلة في الظهور بعد تبني تعريف جديد للأمة.
ورغم أن مسألة انتماء ضياء غوك ألب العرقي للأكراد كانت دائماً محل جدل، إلا أن هذا الأمر لا أهمية له. فحتى لو كان كرديًا، فإن المعنى الذي أسنده إلى الهوية التركية يتجاوز العرق؛ فقد كان يسعى لتأسيس رابط قوي يجمع هذا الوطن، وهو رابط لا يمكن بأي حال أن يعتمد على العرق. وكما أشار طه أكيول في مقاله "إحياء ذكرى ضياء غوك ألب"، فقد كان غوك ألب يرى العرق مسألة تتعلق بعلم الحيوان. ووفقًا لرؤيته لمفهوم الأمة الجديدة في تركيا، كان بإمكان الأتراك والأكراد وغيرهم من الشعوب تشكيل أمة واحدة في إطار وحدة سياسية متماسكة. ولم تكن هذه الفكرة بعيدة عن التصور العثماني للأمة، ولا يزال الإسلام قادراً على توحيد هذه الأمة وجعلها متماسكة .
كان غوك ألب يحذر من العواقب الاجتماعية والسياسية للمسار الجديد التي اتُّخذ بعد وفاته، مثل إلغاء الخلافة وإعلان الدولة أنها علمانية، وتغيير الأبجدية وحظر الأبجدية العثمانية والكتابة العربية. لأن هذه الإجراءات من شأنها أن تعيق بناء وحدة اجتماعية وسياسية متماسكة في تركيا، وتخلق هوة عميقة يصعب تجاوزها، ليس فقط بين الدولة والمتدينين بل بين الأتراك والأكراد أيضًا.
وكما أشار أكيول بدقة، فإن وفاة ضياء غوك ألب مثّلت نهاية للعقلية السوسيولوجية التي أسست لقيام الجمهورية التركية، لتحل محلها عقلية أنثروبولوجية سعت إلى إيجاد رابط جديد يعتمد على العرق والدم وهيكل الجمجمة. فقد شرعت عفت إنان في كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا، في إجراء دراسات أنثروبولوجية لتحديد الخصائص العرقية للهوية التركية من خلال قياس الجماجم. فتم استخراج آلاف الجماجم من قبورها لقياسها وتحديد الخصائص المميزة للعرق التركي. حتى أن جمجمة معمار سنان، الذي أعلى من قدر الهوية التركية عبر التاريخ بسبب إبداعاته المعمارية الفريدة، لم تسلم من هذا البحث، حيث أُخرجت جمجمته من قبره بهدف دراسة أصوله العرقية ولم تُعاد إلى مكانها بعد ذلك.
ولكن هذه العقلية لم تستطع الوصول إلى نتائج علمية حول ما يسمى "العرق التركي" من تلك الدراسات؛ فقد كانت الأناضول عبر آلاف السنين بوتقةً انصهرت فيها عدة شعوب، كما أن مسألة العرق ليست موضوعًا علميًا بسيطا. لقد كنا نعيش في عصر الهوس بالعرق الذي صدرته لنا أوروبا، ومن ثم انشغلنا بهذه الموجة لفترة من الزمن.
ولاحقاً، تم التخلي عن ربط الهوية التركية بالعرق، وبدأت تُبنى على أساس الجنسية والمواطنة، ولكن كان هناك شيء قد انكسر بالفعل. وأكثر ما تضرر هو الأخوة بين الأتراك والأكراد، التي كان غوك ألب يصفها بأجمل الأوصاف. والمفارقة المأساوية هي أن معظم الذين فسروا التركية بطريقة تخلق مسافة بين الأتراك والأكراد لم يكونوا أتراكًا على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، كان تكين ألب أحد أبرز منظري القومية التركية، يهوديًا يدعى مويز كوهين. وقد قدم مويز كوهين، وهو صهيوني، دعمًا كاملاً لإسرائيل بعد تأسيسها. فما الذي كان يتوقعه صهيوني مثل مويز كوهين ومعظم الصهاينة اليهود الآخرين من قومية تركية تساهم في توسيع الفجوة بين الأتراك والأكراد؟
وهذه مسألة أخرى من مسائل تاريخ جمهوريتنا وسياساتها الدينية لم يتم تناولها بعد.
وفي المرحلة التي وصلنا إليها اليوم، وبمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ضياء غوك ألب، فإن تذكر نهجه القائم على الأخوة الدينية والسياسية، والذي تم تهميشه لاحقًا، يعتبر ذا أهمية كبيرة وفائدة عظيمة من جميع النواحي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس