ترك برس

أدلى عمر أونهون، آخر سفير تركي بدمشق، بأول تعليق له حول سقوط نظام بشار الأسد، وذلك عبر مقال صحفي نُشر بعد يومين من هذا التطور التاريخي في تاريخ سوريا. 

المقال الذي نشر على موقع "المجلة"، جاء بعنوان "سوريا... صفحة جديدة وأمل في مستقبل مختلف"، استهله الدبلوماسي التركي بالقول إن "سوريا فتحت صفحة جديدة مع سقوط نظام بشار الأسد. ويشعر السوريون وكأنهم قد ولدوا من جديد، إذ يغمرهم مزيج من الحماس والسعادة رغم استمرار الشكوك والمخاوف التي تخيم على المشهد."

وأضاف: بينما عاش الأسد، الذي حافظ على موقعه بدعم من روسيا وإيران، حياة مترفة في قصره على جبل قاسيون، كافح الشعب السوري، بما في ذلك الكثير من مؤيديه السابقين، للبقاء على قيد الحياة بأبسط مقومات العيش. استشرى الفساد والأنشطة غير المشروعة، ما أدى إلى زيادة تفكك البلاد إلى أجزاء متعددة. وفي ظل هذه الظروف القاسية، كان من المستحيل أن يستمر نظام الأسد وكأن شيئا لم يكن.

وفيما يلي تتمة المقال: 

تعلمنا الدروس المستقاة من التاريخ أن الطغاة لا يمكنهم الاستمرار في حكمهم إلى الأبد. فمهما بلغت قسوة الطاغية ودهاؤه، فإن عجلة الزمن تدور دائما. وها هو الأسد ينضم الآن إلى صفوف الطغاة الذين أطيح بهم.

القضية الأكثر إلحاحا في سوريا اليوم هي إنشاء إدارة انتقالية تحول دون وقوع فراغ في السلطة أو عودة الحرب الأهلية.

أحد الشخصيات الرئيسة في هذا الفصل الجديد هو أحمد الشرع، المعروف بأبو محمد الجولاني، زعيم "هيئة تحرير الشام". يقدم الجولاني رسائل معتدلة تهدف إلى تعزيز الثقة بين مختلف الأطراف. وكما أشرنا سابقا في "المجلة"، أصبحت "هيئة تحرير الشام" التي تعود جذورها إلى "تنظيم القاعدة" و"جبهة النصرة"، نموذجا مشابها لطالبان، ولكن بطابع مخصص للسياق السوري.

في المقابل، اكتسبت تركيا مكانة دولية مرموقة، حيث يعزى إليها الفضل في دورها المحوري في إسقاط الأسد. وخلال مؤتمر صحافي في الدوحة، تعهد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بمساعدة السوريين في إعادة بناء بلدهم.

وفي خضم هذا التحول، كانت إيران وروسيا أكبر الخاسرين. فقد شهد النفوذ الإيراني في سوريا تراجعا كبيرا، ما أدى إلى إضعاف "محور المقاومة" الذي يربط بين إيران والعراق وسوريا ولبنان. كما تعطل الممر اللوجستي الحيوي الذي يربط إيران بالمشرق.

وعلى الرغم من احتفاظ روسيا بقاعدتيها العسكريتين في طرطوس وحميميم، إلا أنها فقدت الكثير من مكانتها الإقليمية. وظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، رغم ثقته الظاهرة خلال مشاركته في منتدى الدوحة، في موقف محرج نتيجة للتطورات السريعة التي تلت تصريحاته.

لقد دفعت كل من روسيا وإيران ثمنا باهظا في سوريا، وأصبحتا الآن موضع كراهية لدى شريحة كبيرة من السوريين.

يعكس الوضع الحالي شبكة معقدة من المفاوضات متعددة الأطراف، تضم الكثير من الجهات الفاعلة: تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والدول العربية الإقليمية و"هيئة تحرير الشام" و"الجيش الوطني السوري" و"وحدات حماية الشعب" وبقايا النظام نفسه. وفي لعبة القوة المعقدة هذه، تتغير التحالفات بسرعة، حيث تتصارع الأطراف وتتعاون في الوقت ذاته.

ليس من المفاجئ أن تشهد هذه الدول صراعات مستمرة ومعارك متبادلة. ففي عالم الدبلوماسية الدولية لأزمات النزاعات، غالبا ما تعمل الديناميكيات الإقليمية والعالمية في منطقة رمادية، حيث يمكن للخصوم أن يتصافحوا بيد، بينما يحكمون قبضتهم بخناق بعضهم باليد الأخرى.

لقد أعيد تشكيل خريطة سوريا لتنتج ثلاث مناطق عمودية متمايزة: الشريط الساحلي الذي يهيمن عليه العلويون، والمناطق الوسطى التي تسيطر عليها المعارضة، والأراضي الشرقية التي تديرها "قوات سوريا الديمقراطية". ومع ذلك، يبقى السؤال عما إذا كان هذا التقسيم دائما أم لا؟

طوال فترة النزاع الأخير، تجنبت قوات المعارضة استهداف المناطق الساحلية (طرطوس- بانياس- اللاذقية)، التي تعد معقل الطائفة العلوية. ويُعزى ضبط النفس هذا على الأرجح إلى اتفاق ضمني يعتبر هذه المنطقة ملاذا آمنا للعلويين والمؤيدين للنظام.

الآن، المسألة الأكثر أهمية هي ما سيحدث لاحقا. من الضروري تجنب انهيار الدولة، ويجب على الأمة السعي لعدم الانزلاق إلى مزيد من الانقسام. وفي هذا السياق، أعلن رئيس الوزراء محمد غازي الجلالي استعداده للتعاون مع المعارضة، مؤكدا التزامه بحماية الأمن العام ومد يده لتحقيق المصالحة. وقد لاقى هذا النهج التصالحي استجابة إيجابية من قِبل المعارضة.

تتمثل الأولوية الفورية في ملء الفراغ الإداري. وقد اقترح الجولاني تشكيل لجنة إدارة، إلا أن التفاصيل حول تكوينها لا تزال غامضة. فمن غير الواضح من سيشارك في هذه اللجنة، وما هي المجموعات التي سيتم تمثيلها، وما إذا كان سيتم إشراك عناصر من النظام السابق أو "وحدات حماية الشعب". وقد تعمل حكومة رئيس الوزراء بشكل مؤقت تحت توجيهات هذه اللجنة.

كان أحد الأسباب الرئيسة لنجاح الأسد في المراحل الأولى من الحرب الأهلية هو تشرذم جماعات المعارضة، مما أدى إلى تحول تركيزها من محاربة الأسد إلى محاربة بعضها البعض. ومع ذلك، أظهرت المعارضة في الأسابيع الأخيرة قدرة مشجعة على العمل بشكل جماعي، مما حقق تقدما كبيرا. وسيكون الحفاظ على هذه الوحدة أمرا بالغ الأهمية بينما تنتقل سوريا إلى الحكم وإعادة الإعمار. فالفشل في ذلك قد يؤدي إلى اندلاع حرب أهلية جديدة.

ومع الكشف عن جرائم نظام الأسد، من المتوقع أن تُنشأ محاكم لضمان تحقيق العدالة. ومع ذلك، يجب أن تتجنب هذه العمليات التحول إلى حملات انتقامية، حيث قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات بدلا من معالجتها. وستكون معالجة مخاوف وهواجس الطائفة العلوية/النصيرية ضرورية لتحقيق سلام دائم.

تُعد معاملة من خدموا تحت حكم الأسد، خاصة في صفوف الجيش، قضية ملحة. ينبغي الاستفادة من الدروس المؤلمة المستخلصة من العراق، حيث أدى حل الجيش إلى حالة من الفوضى. وتكرار هذا الخطأ في سوريا قد تكون له عواقب كارثية مماثلة.

تشكل خطوط الصدع المحتملة تحديا كبيرا. إذ تكمن أبرز مخاطر الصراع بين المعارضة والعلويين، وبين فصائل المعارضة نفسها، وبين المعارضة و"وحدات حماية الشعب" الكردية، وداخل المجتمع الكردي، فضلا عن التوترات بين العرب والتركمان.

وتمثل المعارضة، التي تتألف إلى حد كبير من جماعات جهادية ذات أيديولوجيات إسلامية، تحديا حاسما لمستقبل سوريا. ويبقى السؤال المحوري- عما إذا كانت هذه الجماعات ستلتزم باحترام التاريخ الغني لسوريا كمجتمع متعدد الثقافات والأديان والطوائف- إرثا يعود لقرون قبل عهد الأسد. كما أن شكل الحكم الذي تسعى إليه هذه الجماعات سيكون عاملا حاسما. فإذا ما دفعت نحو نظام إسلامي صارم، قد ينجم عن ذلك توترات كبيرة وعدم استقرار.

ولا يقل أهمية عن ذلك مسار "وحدات حماية الشعب"، التي تم تدريبها وتسليحها من قبل الولايات المتحدة. فخلال الأيام العشرة الماضية، وسّعت هذه الوحدات من نطاق سيطرتها الإقليمية، ومن الواضح أنها تسعى لتحويل هذه المكاسب إلى نفوذ سياسي دائم. وقد أشار قادتها مرارا إلى أنهم سيطالبون، على الأقل، بالحكم الذاتي.

وقد أعلنت تركيا بشكل قاطع أنها لن تسمح لـ"وحدات حماية الشعب" بإنشاء كيان شبيه بالدولة في سوريا، وهو موقف يحظى بدعم غالبية العرب السوريين الذين يعارضون أيضا هذه الطموحات. ومع ذلك، يبقى السؤال حول كيفية استجابة الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب. ففي حين أعرب ترمب عن رغبته في تجنب التدخل العسكري في سوريا، قائلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي: "هذه ليست معركتنا"، يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا الموقف يشمل "وحدات حماية الشعب"، خاصة مع تصاعد التوترات في المنطقة.

وبالنسبة لإسرائيل، قد يبدو تراجع النفوذ الإيراني في سوريا بداية إيجابية. ومع ذلك، فإن انهيار نظام الأسد قد يؤدي إلى هيمنة الجماعات الإسلامية على سوريا بشكل متزايد. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تجنبت حتى الآن استهداف إسرائيل، وفي بعض الحالات استغل الطرفان بعضهما بما يخدم مصالحهما، فإن المخاوف تظل قائمة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة من أن هذا الوضع قد يتغير. فقد تتبنى هذه الجماعات في النهاية مواقف تتماشى مع القضايا العربية والإسلامية الأوسع نطاقا، مما قد يخلق تحديات أمنية جديدة.

وعلى الرغم من أن سقوط الأسد يمثل نهاية حقبة في سوريا، فإن التحديات لم تنتهِ بعد. والطريق إلى الأمام مليء بعدم اليقين، وقد يؤدي حل بعض القضايا إلى نشوء مشكلات جديدة غير متوقعة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!