
ترك برس
تناول مقال للكاتب والخبير التركي نيدرت إيرسانال، تحليلًا معمقًا لتصريحات السفير الأمريكي الجديد لدى تركيا توم باراك، والتي تطرح رؤية استراتيجية جديدة تعيد تموضع تركيا كمركز محوري في النظام العالمي.
ويسلط المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق الضوء على دلالات الطرح الذي قدمه باراك، في سياق التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من روسيا والصين من جهة أخرى.
وأشار الكاتب إلى موقع تركيا الحيوي في مشاريع الطاقة والنقل والدفاع، والتوازنات المعقدة التي تحكم علاقاتها مع قوى إقليمية مثل إيران وإسرائيل.
كما ناقش مدى واقعية هذا التصور الأمريكي، وانعكاساته المحتملة على السياسة الخارجية التركية وتحالفاتها المقبلة. وفيما يلي نص المقال:
"لقد كانت تركيا نبض طريق التوابل وقلب طريق الحرير. كانت دائمًا مركزًا لالتقاء الثقافات والأديان والأعراق، ولحركة التجارة من الشرق إلى الغرب والعكس. وأعتقد أن تركيا يمكن أن تصبح مجددًا مركزًا جديدًا لطريق التوابل، ومركزًا للطاقة والنقل والإنتاج. ففي إطار تصور جديد لطريق التوابل، يمكن لتركيا أن تصبح محطة مركزية لتوريد الغاز لأوروبا ومحطة شحن عبر محطات توزيع الغاز، مما يشكّل درعًا بديلًا لأوروبا في مواجهة التدخل الروسي. وتُعد تركيا واجهة استراتيجية دولية في مجال الدفاع والطيران وفي الشراكة مع الشركات الأمريكية، فضلاً عن تأخيرها انخراط الصين في مبادرة الحزام والطريق لبعض الوقت".
لا شك أن نوايا هذا الطرح أمر آخر، إلا أن ما جاء في تحليل السفير الأمريكي الجديد لدى تركيا، والذي يركز على أنقرة، يُعدّ من أبرز ما قُدّم مؤخرًا في سياق تطورات السياسة الخارجية. إنه أخيرًا أول تصور واضح من واشنطن بشأن العلاقات الأمريكية التركية منذ مدة طويلة.
أولًا: يمكن اعتبار هذا الطرح بمثابة خطوة افتتاحية مع السفير الجديد، لكنه في الوقت نفسه لا يعكس موقف إدارة ترامب وحدها، بل يبدو أنه يعبر عن منظور مؤسسي أوسع لدى الدولة الأمريكية.
ثانيًا: إن هذا التحليل الموجز في فقرة واحدة يحمل في طياته موقفًا مناهضًا لكل من الصين وروسيا، ويمكن اعتباره دعوة لإعادة تموضع تركيا ضمن هذا السياق الجديد.
ثالثًا: نعم، إن تركيا بتاريخها وتراثها تشغل موقعًا مهمًا في كل من طريق التوابل وطريق الحرير (الحزام والطريق)، ولكن النص يولي أهمية خاصة لأحدهما دون الآخر.
رابعًا: إنه "طريق التوابل". أي أن منشأه ليس الصين، بل الهند.
خامسًا: لا يمكن اختزال الجغرافيا السياسية الأمريكية المناهضة للصين وروسيا، والتي تتمحور حول الهند، في هذا الطريق وحده.
سادسًا: بل تشمل أيضًا غرب آسيا وإيران وباكستان وأفغانستان ودول الخليج والمنطقة، وصولًا إلى إسرائيل باعتبارها المحطة الأخيرة في اتجاه البحر المتوسط.
سابعًا: تشمل هذه الرؤية أيضًا روسيا ومنطقة القوقاز وحوض بحر قزوين، وهو ما يتماشى أيضًا مع التصورات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الهندية. فعلى سبيل المثال، اقتنت نيودلهي منظومة S-400 من روسيا كما فعلت تركيا، لكن العقوبات الأمريكية طالت أنقرة وتجاهلت الهند.
ثامنًا: إذا أردنا تمديد هذا "الطريق"، فإنه لا يتوقف عند إسرائيل فحسب، بل يمتد عبر البحر المتوسط إلى قبرص الرومية واليونان وصولًا إلى أوروبا. كما أن هذا الخط يطوّق البحر الأسود أيضًا. ولا حاجة للقول إن ملف أوكرانيا يندرج ضمن السياق ذاته.
تاسعًا: وبطبيعة الحال، فإن خط إيران والعراق وسوريا يستدعي أيضًا إعادة دراسة الوجود التركي ضمن هذا المحور، في ظل المستجدات الجيوسياسية الجديدة. كما أن الفراغ الناتج عن انسحاب روسيا وإيران من سوريا، والمباحثات الحساسة ذات الطابع التصادمي المحتمل بين إسرائيل وتركيا، أضحت بدورها مدرجة على جدول الأعمال.
عاشرًا: إن تركيا تحتل الموقع الجغرافي الذي يتوسط الخريطة الاستراتيجية للعالم، بل وتشغل أوسع نطاقاتها، ما يجعلها العقدة المحورية الأكثر حساسية في رباعي الصين وروسيا وأوروبا والولايات المتحدة في سياق "النظام العالمي الجديد". وهناك الكثير من الفروع المتشابكة المنبثقة عن هذا المحور.
أحد عشر: ما يرد في الخطاب هو تعبير صريح عن توجه إدارة ترامب، حتى وإن كانت تمر الآن بمرحلة أكثر غموضًا، والمتمثل في السعي لعلاقات أفضل مع روسيا، مقابل نهج أكثر حدة ضد الصين.
اثنا عشر: من الواضح أن موسكو وبكين قد فهمتا هذه الرسائل فورًا؛ فاللقاء الذي جمع وزيري خارجية البلدين في مطلع هذا الأسبوع يعد استجابة مباشرة لهذه "الترتيبات الجديدة"، في إطار تنسيق مواقفهما الاستراتيجية.
ثلاثة عشر: يبدو أن واشنطن مترددة في تحديد موعد للقاء ترامب وجينبينغ، بينما تشير الأنباء إلى أن رئيسي روسيا والصين سيقفون جنبًا إلى جنب في الساحة الحمراء بموسكو يوم 9 مايو، احتفالًا بالذكرى الثمانين لانتصار روسيا على ألمانيا النازية، وهو ما قد يتحول إلى رمزية رائعة للتحالف.
أربعة عشر: بعبارة أخرى، تركيا تستمع إلى خطاب السفير الأمريكي الجديد وسط هذا السياق العالمي المعقد.
خمسة عشر: وإذا ما واصلنا تتبع ملامح الفكرة، يمكن القول إن في ذهن الولايات المتحدة تصورًا واضحًا لطريق استراتيجي جديد يبدأ من الهند، ويمر عبر دول الخليج وتركيا وإسرائيل، ويصل إلى سوريا والعراق وأذربيجان وحوض بحر قزوين، وربما يشمل أرمينيا وجورجيا أيضًا.
ستة عشر: خلف هذا الخط هناك الجزء الخلفي المتكئ على أوروبا، ويشمل الاتحاد الأوروبي والناتو، وتمويله يأتي أيضًا من دول هذه المنطقة.
سبعة عشر: لكن الحدود لا تنتهي عندنا؛ فهناك أيضًا عقل يسعى إلى شراكة استراتيجية بين آسيا الوسطى وأوروبا. والأولى هي "قمة الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى" التي عقدت في سمرقند بأوزبكستان، وهي دليل على ذلك. ويسمونها "البوابة العالمية"، وتقول رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين: "اليوم نحن عند نقطة تحول. نحن الأوروبيون نريد أن نكون شريكًا استراتيجيًا معكم في هذا الفصل الجديد من تاريخنا الذي يمتد لألف عام".
ثمانية عشر: الممر "الأوسط" الذي تم الحديث عنه هو ما تدعمه تركيا، لكنه في الوقت نفسه يحتوي على إمكانيات للصين أيضًا، فهل هو بديل لأمريكا وترامب؟ هل هو منافس لخطة الهند؟ لكنه أيضًا يعتبر تركيا "واجهة".
تسعة عشر: كل شيء يتأرجح بين المخاطر والفرص، وهناك مسألتان أمامنا: إيران وإسرائيل. كيف تنظر إيران إلى الطريق الهندي؟ وكيف تنظر إسرائيل؟ ماذا تقول روسيا والصين لإيران؟ وماذا تقول لإسرائيل؟ وماذا تقول روسيا والصين وإسرائيل وإيران وأمريكا لتركيا؟
عشرون: والأهم هو ماذا تقول أنقرة لكل منهم؟
تعيش تركيا واحدة من أفضل فتراتها فيما يتعلق بعلاقاتها مع القوى العظمى. ولا ضير في فتح باب جديد مع الهند. وللأسف فإن تعاملها مع المسلمين وتركيا غير مُرضٍ. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتقسيمات الكبيرة، يمكن لدول مثل الهند تأجيل مواقفها.
إذا اعتبرت تصريحات السفير الأمريكي دعوة أو عرض أوعد، فلا يمكن رفضها ببساطة. رغم أن "فعاليتها" يمكن أن تكون محل نقاش، إلا أنها قد تنجح أيضًا، وليس من المستغرب تجد نفسك عالقًا في البئر التي تنزل إليها بحبل أمريكي. ومن جهة أخرى، نحن نتحدث عن "نظام جديد"، يغير الشروط والأدوات.
قد يكون التطور السريع للعملية السورية وتنظيم "واي بي جي/قسد" في فترة حكم ترامب، أو صمت إسرائيل على شكاوى تركيا، مع إدارة ترامب، تجسيدًا للتوقعات الاستراتيجية التي تكمن وراء ذلك. يمكننا أيضًا قراءة تأثير ذلك على الداخل عبر التناقضات؛ على سبيل المثال، هل يمكن للمقاطعين استخلاص الدروس من تصريحات السفير؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!