
سليمان سيفي أوغون- يني شفق - ترجمة وتحرير ترك برس
نحن نعيش حاليًا تآكلاً حقيقيًا في القيم العالمية. سجل البشرية الأخلاقي مليء بالإخفاقات. التاريخ التقليدي والعريق ليس بريئًا تمامًا، لكن التاريخ الحديث على وجه الخصوص جعل هذا السجل الأخلاقي أكثر سوءًا. ولمواجهة هذا الوضع، لم نتوقف عن رفع سقف التوقعات والأمل بأن القيم الأخلاقية ستجد طريقها إلى الواقع. يمكن تفسير ظهور الأفكار اليوتوبية في العصور الحديثة بهذا الأمر. لكن التوقع العالي يقابله خيبة أمل عالية بنفس الدرجة.
من السهل جدًا المبالغة في تصوير الفترات التي ساد فيها السلام النسبي. لكن هذه الأوقات الجميلة كانت تُتبع دائمًا بكوارث كبيرة. على سبيل المثال، الفترة بين 1870 و1914، التي شهدت سلامًا نسبيًا في أوروبا، جعلت الرأي العام يعتقد أن عصر التنوير قد حقق "سلامًا أبديًا". لكن عام 1914 شهد كارثة استمرت أربع سنوات، وأدت إلى أعلى معدل للوفيات الجماعية في تاريخ الحروب. وقبل أن تلتئم جروح هذه المذبحة، اندلعت أزمة الكساد الكبير عام 1929، ثم بعد عقد من الزمن، اندلعت الحرب العالمية الثانية التي فاقت سابقتها بوحشية، وأسفرت عن مقتل 60 مليون شخص، أي ما يقارب ستة أضعاف ضحايا الحرب الأولى.
لا يمكن تفسير التناقض الصارخ بين "العصر الجميل" (Belle Époque) والحربين العالميتين على أنه مجرد حادث عابر. بدأ الفلاسفة الأخلاقيون يتساءلون عمّا إذا كانت العصور الحديثة قد تأسست منذ البداية على أخطاء جسيمة. ومن الخمسينيات إلى السبعينيات، شهدت هذه الأفكار الأخلاقية تراجعًا كبيرًا. حركات الثقافة المضادة وتمردات جيل 68 (إن تجاوزنا تأثيراتها المحدودة) تعكس فشلًا دراماتيكيًا في تحقيق عالم أكثر أخلاقية. (ولا ينبغي لأحد أن يعتقد أن احتجاجات 68 هي التي أنهت حرب فيتنام!).
من ناحية أخرى، فقدت الحركات الاشتراكية زخمها. الاشتراكية السوفيتية البيروقراطية، وخاصةً الستالينية، دمرت المزاعم الأخلاقية للاشتراكية. أما في الغرب، فقد تحولت هذه الحركات إلى خطاب انتهازي يهدف إلى إبعاد الطبقة العاملة عن السياسة وتركيزها على الحصول على حصة أكبر من الرفاهية.
في الواقع، كان الخطأ يتكرر مرة أخرى. نعم، انتهت الحرب العالمية الثانية، لكن ثمن هذا "الانتصار" كان خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة تهدد البشرية بالانقراض. وحلت المخاوف العملية محل المخاوف الأخلاقية. بعد الحرب العالمية الثانية، سعى جميع الأطراف إلى إنشاء مؤسسات دولية كـ"نظام تأمين" ضد كوارث مستقبلية، لكنها كانت دوافعهم براغماتية، وليست أخلاقية. ومع ذلك، سرعان ما اتضح أن هذا النظام صُمم فقط لمنع الحرب بين العالم المركزي (المعسكر الأطلسي) والعالم شبه المركزي (المعسكر السوفيتي). (نظام "توازن القوى" الذي نادى به كيسنجر يعكس هذا بالضبط). أما خارج هذا النطاق، فقد استمرت الحروب بلا هوادة. فبين 1945 و2000، قُتل حوالي 50 مليون شخص في حروب ونزاعات أهلية. إذن، القرن العشرين لم يكن بأي حال عصر السلام العالمي.
ما نعيشه اليوم يتجاوز ذلك بكثير. القرن العشرين، الذي بدأ عام 1945 وانتهى بسقوط جدار برلين عام 1989، كان الفرصة الأخيرة للإنسان العاقل (Homo Sapiens) قبل السقوط في الهاوية. لأن الإنسان العاقل هو في الأساس نتاج الإنسان الصانع (Homo Faber) أو الإنسان المبدع (Homo Artifex). القرن العشرين كان قرنًا غريبًا ومشوّهًا، حيث ظلت هذه النماذج البشرية سائدة، لكنها تعرضت للقمع والتشويه. ومع ذلك، كان لا يزال لدينا بعض الأمل، رغم ضعفه. أما اليوم، لم يعد لدينا سوى ديستوبيات مشتتة.
منذ السبعينيات، بدأ رأس المال بالانتقال من الغرب (حيث ارتفعت تكاليف الإنتاج) إلى الشرق (الجائع للإنتاج والمنخفض التكاليف). هذه العملية الفوضوية، التي سُميت "العولمة" و"التحرير الاقتصادي"، جعلت رأس المال غير خاضع للمساءلة، وقادرًا على تجاوز كل القيود التي تحد من أرباحه. وتحرر من الضرائب والدول، ومن ضغوط الأحزاب والنقابات المطالبة بزيادة الأجور. وكان تفاقم عدم المساواة حتميًا في عالم بلا إعادة توزيع. ولتعويض هذا الخطر، اعتمدوا على اقتصاد مالي قائم على الديون. في هذا العالم المالي، لم تعد هناك مكان للأحلام اليوتوبية، بل حل محلها أوهام الثراء الفردي.
في هذا العالم "الهجين"، حيث تحولت الخيارات من "إما هذا أو ذاك" إلى "كلاهما معًا"، فقد الإنسان الصانع تماسكه الاجتماعي وتحول إلى كائن فردي ونخبوي. بينما تحولت الجماهير، سواء العمال أو الموظفون، إلى "مستهلكين" (Homo Consumens)، انزوى الإنسان المبدع في أبراج عاجية، ليُنتج أوليغارشية جديدة من رواد الأعمال الأثرياء.
عندما نقل الغرب اقتصاده إلى الشرق، كان واثقًا -بسبب غروره- أن الشرق سيبقى تابعًا. لكن ذلك لم يحدث. العالم شبه المركزي، بقيادة الصين، استولى على كل احتكارات الغرب. بين 2000 و2020، أصبحت الصين عملاقًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا، تجاوز أوروبا واليابان، واقترب من التفوق على الولايات المتحدة.
ترامب هو نتاج هذا العالم، حيث تحولت العمليات التي جعلت أمريكا غنية إلى عوامل تعمل ضدها. هو يلعن بوقاحة العمليات التي جعلت أمريكا "سيد العالم"، بينما أصبحت الآن أكبر دولة مديونة في العالم. إنه يعاقب حلفاء أمريكا في أوروبا والمحيط الهادئ، الذين ساهموا في تحقيق "الحلم الأمريكي".
رغم أن ترامب يبدو أكثر "سلمية" من بايدن (الذي أحيا الناتو وأشعل الحرب بشكل صريح)، إلا أن هذا مضلل. الفرق بينهما هو أن بايدن فشل في إشعال الحرب، بينما يعترض ترامب على دخول أمريكا في حروب مكلفة. لكن ما يريده ترامب هو خلق صحراء اقتصادية ستكون البيئة المثالية لحروب عالمية، مع جعل أمريكا المورد الرئيسي لهذه الحروب.
نحن على أعتاب عالم سيشهد حروبًا أكثر من أي وقت مضى. عالم بلا قيم أخلاقية، بلا أحلام، حيث الحرب أسهل من أي وقت مضى.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس