ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

وراء طالبان التي تحكم أفغانستان اليوم تجربة دفاع وطني تمتد 48 عامًا، ممزوجة بالتضحيات الجسام، والشهداء، والمصابين، والتحركات الاستراتيجية والتكتيكية، والصبر والثبات. ما هي المشاعر والأفكار التي حركت هؤلاء الناس، أو بعبارة ابن خلدون، ما هي “العصبية” التي دفعتهم، بعد الروس، لجعل الولايات المتحدة تندم على مجيئها إلى أفغانستان، متمسكين بالاستقلال تمسكًا واعيًا؟ لا شك أن التعرف عليهم عن قرب يُظهر بوضوح أن هذا الدافع دينيٌّ في جوهره، لم يمر عبر وسائط العقل الحديث، وليس أيديولوجيًّا.

ما قاله عمر المختار، أسد ليبيا، لقائده الإيطالي الذي أسره قبل 95 عامًا، كررته طالبان لأعدائها في كل مناسبة: “ديننا يأمرنا بقتالكم، لأنكم محتلون وتحاولون فرض أخلاقكم الفاسدة على أرض مسلمة. تقولون إننا لا نستطيع الفوز لأنكم قوة عظمى، لكن النصر أو الهزيمة ليس قرارًا لنا. سنقاتلكم حتى لو استمر القتال مئة عام، فإذا استطعتم الصمود فابقوا هنا، ولكن مهما بقيتم لن تهزمونا”.

هذا الموقف أرهب قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو في وقت قصير، حتى أصبحوا عاجزين عن تجاوز مناطق معينة من كابُل، وبدؤوا في البحث عن سبل للخروج منذ البداية. ورغم أن طالبان، كما يوحي اسمها، جماعة من “طلبة العلم”، فقد أرهبت الولايات المتحدة بتكتيكاتها الحربية ونجاحاتها، وحلّت مشكلة المخدرات التي استعصت على الجميع، وأرست سلامًا اجتماعيًّا لم يسبق له مثيل، ووفرت مستوى من الأمن في عموم البلاد لم تشهده أفغانستان منذ 50 عامًا.

بالطبع، لم تصبح أفغانستان دولة متطورة وحديثة، وما زالت تواجه تحديات تاريخية وثقافية. لكن ما يلفت النظر هو حجم المشكلات التي حلتها “الإمارة الإسلامية” في وقت قصير، والأداء الاستثنائي الذي أظهرته. طالبان التي كانت تقاتل في الجبال لعقدين، لم تكن تملك كوادر مدرّبة لإدارة الدولة باحترافية، مما جعلها تواجه صعوبات في تنظيم البيروقراطية، لكنها في المقابل استفادت من هذه المرونة لتسريع الإنجاز.

في شوارع كابل اليوم نظافة غير مسبوقة في أي دولة شرقية أخرى، بفضل نظام بلدي فعال ألغى الصفقات المكلفة التي كانت تترك القمامة متراكمة. وبميزانيات زهيدة نسبيًّا، استؤنفت مشاريع طرق وبنية تحتية متوقفة منذ سنوات.

أما اقتصاديًّا، فقد حافظت العملة على استقرارها بعد أن انخفض سعر الدولار من 130 إلى نحو 65 و70 أفغانيا، مع تضخم شبه معدوم. ويعزو وزير التجارة نور الدين عزيزي هذا الإنجاز إلى: منع التعامل بالدولار، وتقليص المضاربات، وإخراج العملات الأجنبية من التداول التجاري، والقضاء على الفساد، وخفض الإنفاق العام لأدنى حد.

ومن الأمثلة البارزة: كان حاكم الولاية سابقًا يتقاضى ما بين 40 و50 ألف دولار ويتنقل في قوافل فخمة، أما اليوم فيذهب إلى عمله بسيارته الخاصة أو حتى بدراجته، وراتبه أقل من ألف دولار، وكبار المسؤولين يتناولون وجباتهم من المنزل.

زعيم أفغانستان هبة الله أخوندزاده نفسه يعيش في قندهار بعيدًا عن الأضواء، في تواضع يعكس فلسفة طالبان في النظر إلى الحكم على أنه مسؤولية لا امتياز.

كما يحرص قادة طالبان على إشراك المكونات العرقية كافة في الحكم، فوزير التجارة طاجيكي، ونائب رئيس الوزراء عبد السلام حنفي أوزبكي، مما يفند اتهامات “القومية البشتونية”. وبالرغم من أن البشتون يشكلون الأغلبية، فإن المعايير المعتمدة في التعيين تقوم على الكفاءة والجدارة، لا على النسب.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس