إسلام الغمري - خاص ترك برس

تمهيد
منذ اندلاع الحرب على غزة، ظلّت “صفقة الأسرى” عُقدة كبرى أمام حكومة بنيامين نتنياهو. تتغير المبادرات، وتتعدد الوسطات، وتتصاعد الضغوط في الداخل الإسرائيلي، لكن نتنياهو يتمسك بخيار واحد: لا اتفاق حقيقي يوقف الحرب، ولا انسحاب جوهري من القطاع. إنه يراوغ ليكسب الوقت، ويقدّم بقاءه السياسي على كل اعتبار، ولو كان الثمن تعميق جراح المجتمع الإسرائيلي واستنزافه بلا نهاية.
أولاً: معركة بقاء لا معركة حسم
لا يمكن قراءة تعنّت نتنياهو بعيداً عن معادلة بقائه في الحكم. أي تنازل جوهري في ملف الأسرى يعني أحد أمرين:
• الاعتراف بفشل أهداف الحرب وعلى رأسها القضاء على حماس،
• أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة قد تنتهي بإقصائه وسط ملفات فساد وكلفة حرب باهظة.
لهذا يفضّل نتنياهو استمرار حالة “لا حرب تُحسم ولا سلم يُنجز”، حتى يؤجل لحظة المحاسبة.
ثانياً: حكومة رهينة اليمين المتطرف
يعتمد نتنياهو في بقائه على ائتلاف يميني متشدد يرى أن أي صفقة تُوقف النار أو تُطلق سراح أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين هي “هزيمة”. لذا يواصل التفاوض شكلياً لكنه يزرع العراقيل في التفاصيل: يطالب بمناطق عازلة دائمة، أو يرفض الإفراج عن شخصيات بارزة من الأسرى. بهذه الطريقة يُفرغ أي صفقة من مضمونها، ويُرضي حلفاءه المتطرفين.
ثالثاً: هاجس الردع وصورة النصر
بعد السابع من أكتوبر تلقّت صورة الردع الإسرائيلي ضربة قاسية. يدرك نتنياهو أن صفقة تبادل واسعة ستُفهم داخلياً وخارجياً كفشل في تحقيق أهداف الحرب. لذلك يصرّ على مطاردة “صورة نصر” وهمية من خلال اغتيالات محدودة أو عمليات عسكرية متفرقة، ليقول إن إسرائيل ما زالت قوية. لكنه يدرك أن هذه الصورة لا تعوّض الفشل السياسي ولا توقف التدهور في مكانة إسرائيل.
رابعاً: أصوات العائلات… بين الإحراج والمماطلة
يخرج أهالي الأسرى في مظاهرات يرفعون شعار: “أعيدوا أبناءنا”. لكن نتنياهو يتعامل معهم بوصفة مزدوجة: يجلس معهم لامتصاص غضبهم، ثم يوجّه أصابع الاتهام إلى حماس. وهو يراهن على الانقسام في الشارع الإسرائيلي بين من يريد الصفقة بأي ثمن، ومن يفضّل إطالة الحرب بحثاً عن “النصر”.
خامساً: الموقف الأمريكي
الولايات المتحدة تمارس ضغطاً لفظياً وتطرح مبادرات، لكنها في النهاية لا تريد انفجاراً إقليمياً شاملاً. يستفيد نتنياهو من هذا التردّد؛ فيُبدي استعداده الشكلي للتفاوض، لكنه يقدّم شروطاً أمنية وسياسية تعجيزية، ليبقى في مأمن من أي التزام حقيقي.
سادساً: حسابات التطبيع
يعلم نتنياهو أن أي صفقة شاملة قد تُحرج مسار التطبيع الذي يسعى إليه. فالتسوية التي تضمن وقفاً دائماً للنار وإعادة إعمار غزة تعني الاعتراف ببقاء المقاومة وقدرتها على فرض شروطها، وهذا يضعف خطاب “الردع” الذي يحاول تسويقه في الإقليم. لذلك يفضّل إبقاء الملف مفتوحاً بلا حل نهائي.
سابعاً: شروط حماس… جوهر الخلاف
يحاول نتنياهو أن يُصوّر الخلاف على أنه مجرد أعداد وقوائم. لكن الحقيقة أن حماس تطالب بما هو أبعد:
• وقف إطلاق نار شامل،
• انسحاب القوات الإسرائيلية تدريجياً،
• إطلاق سراح الأسرى بأعداد وازنة،
• ضمانات لإعادة إعمار غزة.
هذه ليست تفاصيل ثانوية، بل هي اعتراف بأن أهداف الحرب لم تتحقق، وهو ما يرفض نتنياهو مواجهته.
ثامناً: كلفة العناد
استمرار الحرب لا يعيد لإسرائيل قوة الردع، بل يضاعف نزيفها. الاقتصاد يتراجع، الصورة الدولية تتدهور، والجبهة الشمالية تقترب من الانفجار. الجيش نفسه يشتكي من الاستنزاف بلا هدف سياسي واضح، ما يعمّق الفجوة بين القيادة العسكرية والحكومة.
تاسعاً: سيناريوهات المستقبل
• صفقة متدرجة: عبر تبادل على مراحل مقابل تهدئة مؤقتة، يحاول نتنياهو تسويقها كإنجاز عسكري.
• انتخابات مبكرة: إذا اتسعت دائرة الاحتجاج وتراجعت شعبية الحكومة، قد يُجبر على انتخابات مبكرة تنهي مسيرته.
• إدارة الأزمة: وهو السيناريو الأقرب لذهن نتنياهو، أي استمرار التفاوض المراوغ مع عمليات محدودة.
خاتمة
تعنّت نتنياهو ليس مجرد تشدد تفاوضي، بل استراتيجية بقاء سياسي. لذلك يرفض أي صفقة تُنهي الحرب فعلياً، لأنها تكشف عجزه عن تحقيق وعوده. لكنه في المقابل يدفع إسرائيل إلى مأزق أعمق: نزيف إنساني واستراتيجي، وتراجع في مكانتها الدولية، وانقسام داخلي متسع.
المعادلة في النهاية واضحة: إما صفقة تُنهي الحرب وتُسقط أسطورة الحسم، أو استمرار حربٍ بلا أفق تُسقط أسطورة القيادة.

إسلام الغمري
نائب رئيس مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس