ترك برس

تشير العملية التي بدأت في 7 أكتوبر 2023 مع شن حركة حماس لعملية “طوفان الأقصى” في الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل، إلى نقطة تحول لا تعيد فقط تعريف طبيعة المشكلة الإسرائيلية، بل أيضًا تعيد تشكيل الإطار العام للقضية الفلسطينية. في حين أن تاريخ 7 أكتوبر 2023 شكّل ذريعة لإسرائيل لبدء عملية عسكرية شاملة ومدمرة ومنهجية ضد غزة، فقد أصبح في نفس الوقت محور النقاشات الدولية حول “غزة ما بعد حماس”. من بين أكثر الأسئلة التي يتم طرحها: كيف ستكون إدارة غزة بعد الحرب، وما هو الدور الذي ستلعبه حماس في هذه المعادلة؟ ولكن هذه الأسئلة لا يجب معالجتها فقط من الناحية الفنية، بل يجب أيضًا النظر إليها في سياقها التاريخي والاجتماعي والأيديولوجي. لأن حماس ليست مجرد كيان مسلح؛ بل هي أيضًا رمز للعدالة والمقاومة بالنسبة لغالبية الشعب الفلسطيني، بينما تعتبر بالنسبة لقطاع آخر فاعلاً سياسيًا يحتاج إلى إصلاح. على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي المدمر الذي يستمر منذ أكثر من 600 يوم، فإن عدم القضاء التام على حماس واستمرار مقاومة جزء كبير من سكان غزة، جعل من الضروري إعادة النظر في التوقعات المستقبلية للمنطقة.

الشكل السياسي لحماس واستراتيجيات الشرعية

تعود جذور حماس إلى ما قبل تأسيس إسرائيل بكثير (إلى عشرينيات القرن الماضي)، لكنها تأسست رسميًا في عام 1987 تحت تأثير الانتفاضة الأولى. بدأت كتنظيم أيديولوجي متأثر بجماعة الإخوان المسلمين، لكنها تحولت بمرور الوقت من مجرد منظمة معارضة إسلامية إلى نموذج بديل للحوكمة يقدم خدمات اجتماعية وتعليمية وصحية لمجتمع غزة. في هذا الإطار، اكتسبت حماس صفة “دولة الظل” ككيان خارج الدولة، وبناءً على ذلك، حولت خدماتها المجتمعية إلى شكل بديل للإدارة. تحول هذا الوضع بشكل مختلف بعد فوز حماس في الانتخابات عام 2006، حيث انتقلت شرعيتها إلى الساحة السياسية. لكن الحرب الأهلية التي اندلعت بعد الانتخابات مع فتح، والحصار متعدد الأوجه من إسرائيل، وحروبها ذات الطابع الإبادي، والسيطرة الفعلية على غزة في عام 2007، أدت إلى استبعاد حماس من الوحدة الوطنية ووصمها كـ”منظمة إرهابية” في النظام الدولي. بعد هذه المرحلة، انقسمت استراتيجية الشرعية لحماس إلى شقين: استمرار المقاومة المسلحة من جهة، والسعي لفتح مجال لها على الساحة الدبلوماسية من جهة أخرى.

أظهرت التطورات بعد 7 أكتوبر حدود وإمكانيات هاتين الاستراتيجيتين. عسكريًا، أثارت حماس بفضل مقاومتها في مناطق مثل الشجاعية وجباليا وخان يونس، تساؤلات وشكوكا حول التفوق المطلق لإسرائيل. كما أن أساليب الحرب غير المتكافئة، وشبكات الأنفاق، والهياكل العسكرية اللامركزية، عززت فعالية الحركة على الأرض. ومع ذلك، فقد قيل إنها فقدت ما بين 50٪ إلى 60٪ من قدراتها العسكرية المقدرة بـ 30,000 إلى 40,000 عنصر قبل الحرب. ورغم أن هذه الخسائر أضعفت قدراتها المادية، إلا أنها لم تقضِ على تأثيرها على المستوى الرمزي. بالإضافة إلى ذلك، تم الإبلاغ عن زيادة في الانضمام إلى حماس. يمكن اعتبار قدرة حماس على حماية وجودها على الأرض رغم الدمار الهائل في غزة، بمثابة إنتاج لشرعية سياسية تتجاوز المقاومة المسلحة.

أما على الصعيد الدبلوماسي، فقد أعربت حماس مرارًا عن انفتاحها على حوار غير مباشر مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وإن لم يكن ذلك بشكل مباشر، وذلك عبر وساطة قطر ومصر. علاوة على ذلك، مع اتضاح نية حكومة نتنياهو عدم إنهاء الإبادة الجماعية في غزة، تعززت الأرضية الدبلوماسية لشرعية حماس أكثر. خلال عهد ترامب، أجريت اتصالات مباشرة بين غزة وواشنطن عبر الممثل الخاص الأمريكي للشرق الأوسط ويتكوف. كما أكد متحدثون رفيعو المستوى في الحركة أنهم “منفتحون على حل سياسي، لكن ذلك لا يعني الاستسلام”. في هذا السياق، تؤكد حماس أنها قد تدعم حكومة مؤقتة من التكنوقراط، ولكن بشرط ألا يتجاهل ذلك المقاومة المسلحة. لهذا السبب، فإن صيغة “غزة بدون حماس” التي فرضتها الجهات الغربية وإسرائيل غير صالحة ميدانيا ولا على طاولة الدبلوماسية. ويرى محللون فلسطينيون أن حماس قادرة على الاستمرار بتغيير اسمها أو الاندماج تحت سقف وطني جديد إذا لزم الأمر.

المعادلة الإقليمية وتموضع حماس

لا يرتبط المستقبل السياسي لحماس فقط بالديناميكيات الداخلية الفلسطينية، بل أيضًا بالتطورات الإقليمية. فعلاقاتها مع جهات فاعلة مثل إيران وحزب الله وقطر وتركيا، تمكنها من البقاء على قيد الحياة ليس فقط عسكريًا، بل أيضًا دبلوماسيًا واقتصاديًا. بينما تقدم إيران الدعم العسكري والتكنولوجي لحماس، توفر قطر الدعم المالي والحماية الدبلوماسية. أما تركيا، فهي تلعب دورًا رمزيًا أكثر من خلال الدعم الدبلوماسي والإغاثة الإنسانية. ومع ذلك، فإن آليات الدعم الإقليمية هذه تأتي مع ضغوط لتغيير حماس. فقد تشجع إيران تحول حماس إلى هيكل أكثر لامركزية على غرار نموذج حزب الله، بينما قد تضغط قطر وتركيا على الحركة لتليين خطابها السياسي وتبني مطالب أكثر براغماتية لتمثيل كل فلسطين. ولذلك، يتعين على حماس أن تنتهج سياسة متوازنة بين حلفائها الإقليميين. أما من وجهة نظر إسرائيل، فإن استمرار الحرب حتى عام 2025 تسبب في انقسامات سياسية داخلية خطيرة. فقد حذر رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت في مقالاته من أن إسرائيل تتجه نحو حرب أهلية، وأنها ارتكبت جرائم حرب في غزة. مع تصاعد الضغط الشعبي على حكومة نتنياهو بسبب الخسائر العسكرية التي تجاوزت الآلاف، واستمرار احتجاز الرهائن، فإن شرعية الحكومة أصبحت موضع تساؤل. على الصعيد الدولي، تراجع الدعم لإسرائيل بعد اعتراف دول مثل إسبانيا والنرويج وأيرلندا بدولة فلسطين، مما زاد من عزلتها.

سيناريوهات المستقبل

تتشكل النقاشات حول مستقبل حركة حماس بعد الحرب حاليًا حول ثلاثة سيناريوهات أساسية، تختلف تحت عناوين مثل الوجود العسكري للحركة، والتمثيل السياسي، وإدماجها في معادلة الوحدة الوطنية. السيناريو الأول يتوقع تحول حماس وإدماجها في النظام السياسي الفلسطيني الحالي. في إطار هذا السيناريو، قد يكون من الممكن للحركة أن تحصل على تمثيل سياسي دون حل جناحها العسكري رسميًا. مثل هذا النموذج يمكن أن يمكّن حماس من ضمان الاعتراف بها كفاعل سياسي، خاصة في إطار حكومة وحدة وطنية. ومع ذلك، فإن انعدام الثقة العميق بين إدارة فلسطين بقيادة محمود عباس وحركة حماس، بالإضافة إلى محاولات الوحدة الفاشلة في الماضي، تحد بشكل كبير من جدوى هذا الخيار. لذلك، ستكون الضمانات الهيكلية وآليات الرقابة التي توفرها الجهات الفاعلة الخارجية حاسمة لنجاح هذا السيناريو. كما ينبغي اعتبار إجراء انتخابات حرة وشاملة في بيئة ينتهي فيها الاحتلال الإسرائيلي شرطًا أساسيًا لبدء هذه العملية. 

السيناريو الثاني يشير إلى هيكل يتم فيه تصفية الوجود السياسي والمؤسسي لحماس بالكامل وتفكك حركة المقاومة. في هذا النموذج، من المتوقع أن تعمل هياكل مثل كتائب القسام كخلايا مستقلة وتختفي سلسلة القيادة المركزية. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو هو بديل احتماليته منخفضة للغاية نظرًا للتماسك الأيديولوجي لحماس وأسباب وجودها التاريخي. بالنظر إلى أن فكرة المقاومة هي أحد المكونات التأسيسية لحماس، فإن هذا النوع من التفكك سيقضي على الحركة من الناحية التعريفية أيضًا. علاوة على ذلك، قد يؤدي هذا الوضع إلى ظهور شكل مقاومة يصعب على إسرائيل السيطرة عليه، وغير متوقع ومشتت.

أما السيناريو الثالث والأكثر واقعية، فيتضمن إنشاء حكم مدني مؤقت تحت ضمانات إقليمية. كما يشمل هذا النموذج صيغة انتقالية تحتفظ فيها حماس بوجودها الرمزي والأيديولوجي مع الانسحاب من الدور الإداري المباشر و/أو غير المباشر. وفقًا لهذا السيناريو، يمكن أن تستمر السيطرة الفعلية لحماس على غزة دون تمثيل سياسي مرئي، ولكن خلال هذه العملية يمكن إنشاء هيكل إداري يتكون من شخصيات تكنوقراطية منفتحة على التفاهم مع الجهات الفاعلة الدولية. وقد أكد المتحدثون رفيعو المستوى في الحركة أنهم منفتحون على الحلول السياسية، لكن ذلك لا يجب أن يعني استسلاما، مشيرين إلى أنهم قد يدعمون حكومة مؤقتة بشرط ألا يتم محو المقاومة. في هذا السياق، تعتمد قابلية تطبيق هذا النموذج على قيام حماس بدور جديد كفاعل أكمل مهمته التاريخية في المقاومة. يقيّم بعض المحللين هذا السيناريو ليس على أنه تصفية سياسية لحماس، بل كتجاوز للحدود التنظيمية لخدمة تأسيس الدولة الفلسطينية. وبالتالي، يمكن لحماس أن تعيد تحديد موقعها ليس كمنظمة مسلحة فحسب، بل كفاعل تحويلي يساهم في تشكيل هياكل سيادة مؤقتة في التاريخ الفلسطيني. يبرز هذا السيناريو باعتباره النموذج الأكثر قابلية للتطبيق، سواء من حيث مرونته في كسب دعم الجهات الفاعلة الإقليمية أو من حيث تقديم حل مؤقت لأزمة الشرعية على الأرض.


تقرير تحليلي للكاتب التركي محمد رقيب أوغلو  ،نشرته مجلة كريتيك باكيش

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!