ترك برس

تناول تقرير للكاتب والخبير السياسي التركي يحيى بستان، ملامح التحولات الجيوسياسية في النظام العالمي على ضوء الحرب الأوكرانية، مع التركيز على الدور الأمريكي في إدارة الصراع عبر دعم مشروط لأوكرانيا بهدف استنزاف روسيا، وليس الانتصار الحاسم.

ويستعرض التقرير الذي نشرته صحيفة يني شفق المحلية مواقف كلٍّ من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وخلفيات محادثات "قمة ألاسكا" التي تشير إلى إعادة صياغة التوازنات الدولية.

ويربط الكاتب بين الأزمة الأوكرانية ومشاريع أخرى تقودها واشنطن، مثل ممر زنغزور في القوقاز، موضحًا أن كل هذه التحركات تستهدف احتواء الصين.

وفي هذا المشهد الدولي المعقّد، يُبرز بستان موقع تركيا كقوة إقليمية تسعى للعب دور الوسيط، والحفاظ على توازن استراتيجي بين موسكو، وكييف، وواشنطن، وبروكسل.

وفيما يلي نص التقرير:

لم تقدم الولايات المتحدة دعمًا لأوكرانيا يغير قواعد اللعبة مطلقًا. لنتذكر التصريح الأول للرئيس الأمريكي السابق بايدن في الأيام الأولى للحرب، إذ اكتفى بالقول: "إذا تعرض أعضاء الناتو لهجوم، فسنتصدى له". أي إن واشنطن لم تكن تعتزم الدفاع عن أوكرانيا، بل أرادت فقط أن تجعل الغزو الروسي أكثر صعوبة. ومن ثم تحوّلت أوكرانيا إلى ساحة استنزاف لموسكو. ولهذا السبب، ظل الدعم المقدم لأوكرانيا مشروطًا دائمًا. زوّدوها بالصواريخ، لكنّهم حدّوا من مداها. ولم يلبوا مطالب أوكرانيا بالحصول على طائرات مقاتلة لمدة عامين.

أما مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فقد ازدادت ملامح هذه السياسة وضوحاً. فرغم أنه لم يستطع إنهاء الحرب في أربعٍ وعشرين ساعة، فقد تبيّن في لقائه المثير للجدل مع زيلينسكي في المكتب البيضاوي خلال شهر شباط/فبراير أنه يسعى إلى حل جذري. كان ترامب يدرك أن إقناع زيلينسكي بقبول السلام أسهل بكثير من إقناع بوتين بالتراجع. ومن ثم كان مستعداً لمنح موسكو جزءاً كبيراً مما تريده في أوكرانيا مقابل بعض التنازلات، ويبرم اتفاقات مع روسيا في مجالات عدة من الطاقة إلى القطب الشمالي، ويعيد صياغة البنية الأمنية الأوروبية، ويدير الخصومة التاريخية بين روسيا والغرب بما يجعل بروكسل رهينة لسياساته، أو يحقق توازن بين موسكو وأوروبا، وكل ذلك دون أن يخصص ميزانية لأمن أوروبا.

تأكيد بوتين على "الأسباب الجذرية"

لقد أظهرت قمة ألاسكا أن ترامب لا يزال متمسكاً بهذا النهج. فالإيحاءات المتكررة منذ شباط/فبراير بشأن احتمال فرض عقوبات أمريكية على روسيا، وتحريك غواصتين نوويتين، وافتعال أزمات محدودة الطابع، لم تكن سوى أدوات تفاوض غير مباشرة تحضيراً لقمة ألاسكا، شبيهةً بمناورات بوتين لكسب الوقت في محادثات إسطنبول. وفي إسطنبول وألاسكا شدد الروس على أن «تسوية النزاع تقتضي معالجة أسبابه الجذرية». ويبدو أن ترامب مستعد لإزالة هذه الأسباب.

فما هي هذه الأسباب الجذرية؟ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لم تتقبّل موسكو حصول أوكرانيا على استقلالها، ورأت في ذلك خسارة استراتيجية. وعندما خسرت في مواجهة الغرب خلال ما يُعرف بـ «حروب الثورات الملونة»، قررت احتلال جزء من أوكرانيا. بمعنى آخر، الحرب لم تبدأ في 2022، بل انطلقت مع ضم القرم في 2014. فعام 2014 يمثل المرحلة الأولى، وعام 2022 هو المرحلة الثانية. وتسعى موسكو للسيطرة على دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريزهيا، مع إبقاء أوكرانيا على الحياد دون الانضمام إلى الناتو أو الاتحاد الأوروبي، أي إزالة أي تهديد محتمل. أما الضمانات الأمنية التي يطالب بها الغرب لأوكرانيا فتهدف إلى منع الحرب من الانتقال إلى «المرحلة الثالثة» في السنوات المقبلة.

الولايات المتحدة تتصرف بعدوانية

بعد قمة ألاسكا، يظهر المشهد على النحو التالي: يسعى بوتين إلى الاعتراف بضم القرم، والسيطرة الكاملة على دونيتسك ولوغانسك والسيطرة الجزئية على مناطق خيرسون وزابوريزهيا، ورفع العقوبات، وجعل اللغة الروسية اللغة الثانية في أوكرانيا، وإلغاء القيود المفروضة على أنشطة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. أما التنازل الوحيد الذي قدمه بوتين فهو الضمانات الأمنية التي ستحصل عليها أوكرانيا.

ويقول الأوكرانيون: «الولايات المتحدة تتصرف بعدوانية لا تصدق لدفعنا إلى تقديم تنازلات إقليمية». وقد دعا ترامب زيلينسكي إلى واشنطن، فيما أعلن القادة الأوروبيون أنهم سيزورون واشنطن لتجنب حدوث أزمة ثانية في المكتب البيضاوي. يبدو أن الأوروبيين تجاوزوا مسألة «تبادل الأراضي» ويسعون الآن لتشكيل ما بعد الاتفاق، وهذا سبب حديثهم عن الضمانات الأمنية.

هل هذه التطورات منفصلة عن زنغزور والشرق الأوسط؟

من اللافت أن جهود حل الأزمة الأوكرانية تتزامن تمامًا مع محاولات ترامب بناء هيكل أمني في الشرق الأوسط. فروسيا، تقلص نفوذها في سوريا وفقدت ميناء طرطوس. وفي الوقت نفسه، دخلت الولايات المتحدة إلى القوقاز عبر ممر زنجزور أو ما يُعرف بـ "TRIPP" إلى منطقة القوقاز، وكشفت عن مشروعها الذي سيربط الشرق الأوسط بآسيا الوسطى. وجميع هذه التطورات التي تبدو مستقلة عن بعضها البعض، ترتبط في نهاية المطاف بمركز واحد، وهو الصين.

شكلت قمة ألاسكا نقطة تحول في هذا السياق. فالروس ينظرون إلى القمة من زاوية "بناء نظام جديد". وفي هذا الصدد، أدلت عضو مجلس الاتحاد الروسي ناتاليا كوسيخينا بتصريح لافت، حيث تحدثت عن ما سمّته بـ "نظام ألاسكا". ووصفت ملامح هذا النظام الجديد على النحو التالي: "نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يتميز بخصائص مثل الاحترام المتبادل، والتعاون الاقتصادي، ومراعاة المصالح الوطنية".

موقع تركيا في هذا النظام الجديد

يبقى السؤال: أين تقف تركيا في هذا "النظام الجديد"؟ أو كما صاغ أحد أصدقائي التساؤل: "لماذا يتجه جميع القادة الأوروبيين إلى واشنطن، بينما تغيب تركيا عن المشهد هناك؟" الجواب يكمن في أن الحراك السياسي في واشنطن – الذي يجمع ترامب وزيلينسكي وزعماء أوروبا – ليس إلا ملتقى لمعارضين، بينما تختلف السياسة التركية تجاه أوكرانيا عن سياسات جميع الأطراف الأخرى. فأنقرة تتموضع في قلب المشهد: بين واشنطن وموسكو وكييف وبروكسل معًا. وهذا سبب قيامها بدور الوساطة في إسطنبول.

وفي إطار النظام الجديد، تقوم مقاربة تركيا على مايلي:

أولًا: إقامة علاقات قوية مع روسيا.

ثانيًا: الإسهام في أمن أوكرانيا عبر الضمانات الأمنية، وأمن البحر الأسود، والمشاركة في التحالف الدولي للطائرات المسيّرة وغيرها.

ثالثًا: المشاركة في هندسة الأمن الأوروبي، عبر التعاون في الصناعات الدفاعية، وتنظيم SAFE، ومبادرة درع السماء الأوروبية، وغيرها.

رابعًا: تعزيز التبادل الاستراتيجي مع الولايات المتحدة (في الشرق الأوسط والبلقان وأوراسيا وأفريقيا).

ومن موقع أنقرة، يبدو الأفق في هذا المشهد الجديد واضحاً.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!