ترك برس

حلّل تقرير للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، بصحيفة يني شفق، مشهد العزلة الدولية غير المسبوقة لإسرائيل بعد عامين من حربها على غزة، متوقفاً عند رمزية إفراغ قاعة الأمم المتحدة أثناء خطاب بنيامين نتنياهو بوصفه رسالة احتجاج عالمية على الإبادة الجماعية والعدوان المستمر.

يستعرض أقطاي إخفاقات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في تحقيق هدفيه المعلنين: تحرير الأسرى والقضاء على حركة حماس، موضحاً كيف تحولت الحرب إلى عامل يقوي الحركة بدلاً من إضعافها، ويكشف عن قدرة حماس على إعادة إنتاج قياداتها بسرعة وتحويل شهدائها إلى رموز ملهمة.

كما يناقش الكاتب الانهيار التدريجي لرواية “الضحية” الإسرائيلية، وتراجع فعالية اتهام الخصوم بمعاداة السامية، وصولاً إلى واقعٍ دبلوماسي جديد يضع إسرائيل في موضع المحاسبة الدولية والعزلة السياسية. وفيما يلي نص التقرير:

إن إفراغ قاعة الأمم المتحدة التي بدت مكتظة، احتجاجًا على صعود نتنياهو البربري مرتكب الإبادة الجماعية، لإلقاء كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يُعدّ أوضح رسالة للمجتمع الدولي ضدّ الهمجية وسياسة الإبادة والعدوان الإسرائيلي المستمرة منذ عامين. في العام الماضي، وعلى نفس المنبر، ألقى نتنياهو على مستمعيه بياناً صهيونياً في غاية الغطرسة والوقاحة، حيث أعاد تعريف وتصنيف الدول الصديقة والعدوة من وجهة نظره. واللافت أن معظم الدول التي صنفها كصديقة العام الماضي أدارت له ظهرها هذه المرة، وغادرت القاعة تعبيراً عن رفضها.

وبعد مرور عامين على عدوانه الهمجي الذي بدأه بعد 7 أكتوبر، لا يزال نتنياهو بعيداً كل البعد عن تحقيق هدفيه المعلنين. فهدفه الأول المتمثل في "تحرير الأسرى" لم يتحقق، إذ لم يتمكن من إنقاذ أي رهينة باستثناء من أُفرج عنهم بموجب الاتفاقات. بل بات واضحًا اليوم أنّه يخوض حربًا لا يأبه فيها بحياة الأسرى أنفسهم.

أما الهدف الثاني، وهو القضاء على حركة حماس، فقد فشل بدوره؛ صحيح أنه نجح في اغتيال معظم قياداتها المعروفة، لكن الحركة لم تضعف بل ازدادت قوة وتجذراً. فما زالت حماس حتى اليوم تقاوم الاحتلال بنفس الفاعلية التي بدأت بها، بل وأظهرت قدرة أكبر على استقطاب المقاتلين الجدد لتعويض شهدائها، لتقدم بذلك برهاناً عملياً على صلابة بنيتها واستمرار قدرتها القتالية دون أي وهن.

إن حركة حماس لا تنتهي بالقتل، بل على العكس، فإن موقفها الهادئ تجاه الموت وسرعة تعويض الشهداء بحماسة كبيرة يظهر قوة مقاومة لا مثيل لها في العالم. إنها ليست قوة تستجدي الشفقة، بل قوة تُبقي الأمل حياً وتصدح بصوت الحقيقة في وجه الظالم، رافضةً الخضوع له. إن استبدال القادة القتلى فورًا بقياداتٍ تتمتع بنفس الفطنة القيادية والمهارات القتالية يظهر أن حماس تمتلك قدرة فريدة وغير مسبوقة على صناعة القادة. كم عدد الحركات في العالم التي استطاعت إخراج قادة جدد على الفور بعد مقتل هذا العدد من كوادرها القيادية؟

حتى القادةُ الذين قُتلوا باتوا من خلال طريقة استشهادهم، رموزًا تهديدية أقوى من وجودهم الحيّ. فطرق استشهاد قادة الحركة، كحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية وغيرهم من قادة الحركة، تتحول إلى أساطير تُهين كرامة العدوّ وتغرس في روح المقاومة غابةً من البطولة. إنّ بطولاتٍ بهذا النوع لم تشهدها صفحاتُ التاريخ الثوري والمقاوم كما شهدتها المواجهة مع إسرائيل، تنسف كل الروايات التي اعتمدت عليها إسرائيل.

فلم تعد رواية الهولوكوست تُقنع أي شخص بشرعية إسرائيل أو مظلوميتها أو كونها ضحية. بل على العكس، فإن مشهد إلقاء يحيى السنوار لعصاه بيده اليسرى بعد أن فقد يده اليمنى، يذكرنا بـ عصا موسى التي تدعو إلى عدم الاستسلام والتوكل على الله. في أحلك اللحظات، وفي أشد حالات الحصار والضيق، وحتى قبل أن تلفظ أنفاسك الأخيرة، لديك حجر ترميه على العدو، ترجم به الشيطان. أنت لا تقرر ما إذا كان ذلك الحجر له تأثير أم لا. فواجبك هو إلقاء ذلك الحجر، وبصدقك وثباتك وإصرارك، فإن الله يتكفل بإيصال ذلك الحجر إلى هدفه. فربما بدا للوهلة الأولى أنّ عصا يحيى السنوار لن تصل إلى أي مكان، لكنها بلغت أهدافها بالفعل، وابتلعت أفاعي الإعلام، وشقت البحار، وأرعبت الأوغاد.

لقد كانت لـ يحيى السنوار أهداف ورؤى واضحة عند إطلاقه لـ "طوفان الأقصى"، ومن اللافت أن نرى اليوم كيف يقترب من تحقيقها خطوةً بخطوة. فلم يكن قتله أو استشهادهفي هذا الطريق بعيداً عن توقعاته؛ بل سبق له القول إنه يعتبر القتل في هذا المسار هبة من أعدائه. والأهم من ذلك، أنه صرّح بأن هذه الحرب ستُلحق بالكيان الصهيوني هزيمة نكراءً لم يشهدها منذ تأسيسه.

هذه الهزيمة ستجلب معها العزلة، والتهميش، وإدانةً عالمية. وعندما قال يحيى السنوار هذه الكلمات، كانت إسرائيل تعيش فترة يمكن اعتبارها من أنجح الفترات في تاريخها الدبلوماسي. بل كانت الدول العربية والإسلامية تتسابق للتطبيع معها. والحقيقة أن علاقاتها مع تركيا أيضاً تقدمت لدرجة التخطيط لتبادل الزيارات وتوقيع اتفاقيات التعاون السياسي والتجاري. وفي خضم هذا الأداء الناجح على صعيد العلاقات الدولية، لم تتوقف إسرائيل عن عدوانها الداخلي؛ فقد كانت تواصل الاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية كالمعتاد، وتستمر في اعتداءاتها المنظمة على القدس، وفرض حصارها على غزة. ولم يكن فتح دول إسلامية، وحتى تركيا، صفحات جديدة في علاقاتها مع إسرائيل يمنعها من عدوانيتها هذه، بل أتاح لها أن تواصل الأمرين معًا بصورة طبيعية.

ووسط هذه الأجواء أعلن يحيى السنوار أهدافه التي كانت تبدو مستحيلة فيما يتعلق بالحرب، ورغم استشهاده اليوم، تتحقق تلك الأهداف الواحد تلو الآخر. فاليوم، ينظر إلى إسرائيل على أنها مرتكبة لإبادة جماعية في جميع أنحاء العالم. ويتخلى عنها أصدقاؤها تباعاً، ولم يعد المواطنون الإسرائيليون موضع ترحيب في أي مكان في العالم، بل يواجهون ردود فعل عشوائية واحتجاجات متكررة. لقد جعلت عدوانية إسرائيل حياة اليهود في كل مكان بالعالم أكثر صعوبة. أما درع "معاداة السامية" فلم يعد كافيًا لوقف أي انتقاد أو حتى أي هجوم. وقد تراجع موقع الحكومة الإسرائيلية في العالم إلى مستوى أصبحت فيه مكروهة في العالم كله، ويُتجنَّب التعاون معها، ويُتحاشى الظهور معها في صورة واحدة.

نحن اليوم قريبون جدًا من وقف إطلاق النار في غزة. وفي هذه المفاوضات، يشغل بال الجميع سيناريو “اليوم التالي”. حيث تُطرح تساؤلات حول مصير حركة حماس: هل ستُجبر على تسليم سلاحها أو التخلي عنه؟ لكن لا أحد يطرح السؤال الأهم: إذا لم تتمكن إسرائيل، على مدى عامين من الحرب، من نزع سلاح حماس، فكيف يمكنها هي أو غيرها أن تحقق ذلك الآن؟ . وبطبيعة الحال، هناك أيضًا من يساوره القلق و يخشون على حماس خوفا من وجود أجندة أخرى وراء وقف إطلاق النار أو الاعتراف بفلسطين.

غير أن ما يجب التأكيد عليه، في ضوء ما تحقق بالفعل من أهداف السنوار، هو أن من ينبغي أن يقلق بشأن "اليوم التالي" ليس حماس ولا فلسطين، بل إسرائيل نفسها.

فمهما كان الدور أو المصير الذي ينتظر حماس بعد الحرب، فإن القضية الأكثر جدارة بالاهتمام والعبرة هي: مكانة إسرائيل في المجتمع الدولي، بعد أن أصبحت معزولة ومتهمة بارتكاب الإبادة الجماعية.

في "اليوم التالي"، لن يكون أمام إسرائيل ما تفعله سوى محاولة تبرير مظالمها وجرائمها في هذه الحرب التي ستحاسب عليها، والسعي إلى محو وصمة الجريمة والذنب التي وُسِمت بها، والدفاع عن نفسها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!