ترك برس

رغم سباق العالم نحو السرعة، تبقى القطارات التركية القديمة تسير بإيقاعٍ مختلف — إيقاع الزمن الجميل، حيث يُقاس السفر باللحظة لا بالكيلومتر، وبالمنظر لا بالوجهة.

من أنقرة إلى إسطنبول، ومن إسبرطة إلى إزمير، ومن قيصري إلى أضنة، تنسج سكك الحديد التركية خيوطًا من التاريخ والجغرافيا في لوحةٍ لا تزال تنبض بالحياة، حاملةً معها عبق الماضي وموسيقى العجلات على السكة.

في بلدٍ يجمع بين قارتين، لا تقتصر القطارات على كونها وسيلة نقل، بل تجربة ثقافية وسياحية فريدة، تستعيد ذاكرة الرحلات البطيئة والمحادثات الهادئة التي كانت ترافق الطريق قبل أن تخطفنا القطارات السريعة إلى العجالة. هذه جولة بين أبرز القطارات التركية التي تُعيد تعريف السفر بالسكك الحديدية.

قطار البوسفور السريع: رحلة بين العاصمة والبحر

يعمل قطار البوسفور السريع يوميًا بين أنقرة والعريفي، قاطعًا المسافة في ست ساعات من الجمال الطبيعي والهدوء. ينطلق من أنقرة في الساعة 8:15 صباحًا ليصل إلى العريفي في 14:27، بينما تبدأ رحلة العودة في 15:30 ليصل إلى العاصمة في 21:34.

يتألف القطار من أربع عربات تتسع لـ240 راكبًا، ويتوقف عند 16 محطة، ليخدم المدن الصغيرة التي لا تتوقف فيها القطارات عالية السرعة.

يُعد هذا القطار بمثابة شريان نابض بين المدن المتوسطة، وجسر بين الأجيال — فهو يحمل الركاب كما يحمل الذكريات، عبر وديان الأناضول وتلالها الخضراء.

قطار البحيرات: على خطّ إسبرطة – إزمير بين الطبيعة والتاريخ

يُطلق عليه الأتراك اسم “غولار ترين”، أي "قطار البحيرات"، وهو اسم يختصر روعة الطريق الممتد من إسبرطة وبوردور إلى إزمير. ينطلق القطار يوميًا من محطة باسمان في إزمير عند الساعة 23:00، ومن إسبرطة في الساعة 22:30، قاطعًا الرحلة في نحو 8 ساعات ونصف.

يتألف من أربع عربات بسعة إجمالية تبلغ 262 راكبًا، وتُكمل الحافلات رحلته إلى مركز مدينة بوردور للركاب القادمين من محطة جوموشجن.

أبرز محطات الرحلة:

إزمير (باسمان): لؤلؤة بحر إيجة، مدينة عمرها 8500 عام، احتضنت هوميروس وازدهرت في ظل حضارات متعاقبة. تقع بين مدينتي بيرغامون وأفسس، المصنفتين ضمن التراث العالمي لليونسكو.

أيدين: المدينة القديمة “ترالليس”، مركز فني عريق ومدرسة نحت مشهورة في القرن الثاني الميلادي، وتضم موقع أفروديسياس الأثري المذهل.

دينزلي: بوابة باموكالي الأسطورية، بشلالاتها الكلسية البيضاء ومدرجاتها الحرارية الفريدة التي أدهشت الرومان.

بوردور: عاصمة البحيرات التركية، تشتهر ببحيرة بوردور التي تعكس سماء الأناضول وتُعد وجهة مثالية للسباحة والرياضات المائية.

إسبرطة: مدينة الورد والعطور، حيث تتلألأ بحيراتها الفوهية كجواهر في قلب الجبال، مثل بحيرتي غولكوك وإغردير، في مشهد يأسر العيون ويُنعش الروح.

قطار أنقرة: بين العاصمتين أنقرة وإسطنبول

هو أحد أكثر القطارات رمزية في تركيا، إذ يربط بين العاصمة السياسية أنقرة والعاصمة الثقافية إسطنبول. يعمل القطار يوميًا منذ عام 2019، وينطلق من كل مدينة عند الساعة 22:00 ليصل بعد نحو 8 ساعات و40 دقيقة.

يضم القطار عربات بولمان مريحة، وعربة نوم فاخرة (ياتاكلي) تحتوي على 10 مقصورات مزدوجة، إضافةً إلى عربة طعام تقدّم وجبات على وقع موسيقى القضبان.

محطات الرحلة ومعالمها:

أنقرة: العاصمة الحديثة التي تضم قلعة أنقرة ومتحف حضارات الأناضول، أحد أغنى المتاحف الأثرية في العالم.

إسكيشهر: “المدينة الطلابية” التي تمزج بين روح الشباب والحداثة، وتشتهر بجامعاتها وثقافتها المعاصرة.

إزميت: مدينة صناعية ذات جذور رومانية، وتُعرف بسجادها العريق ومنازلها العثمانية الجميلة.

إسطنبول: الجسر بين الشرق والغرب، مدينة الحضارات الثلاث ومهد الثقافات، حيث يلتقي التاريخ بالعصر الحديث في مشهدٍ لا يتكرر.

قطار أرجيَس السريع: من كبادوكيا إلى شواطئ البحر المتوسط

يعمل قطار أرجيَس السريع يوميًا بين قيصري وأضنة، قاطعًا الطريق في نحو خمس ساعات ونصف، عبر جبال طوروس ووهاد الأناضول الجنوبية. هذه الرحلة القصيرة بالزمن الطويلة بالإبهار الجغرافي، تُعتبر من أكثر الخطوط رومانسية في تركيا.

أهم المحطات على الطريق:

قيصري: بوابة كبادوكيا الساحرة، بمدنها المنحوتة في الصخور ومدنها الجوفية مثل ديرنكويو وكايماكلي.

نيدا: مدينة أثرية احتضنتها طرق التجارة القديمة، وتجمع بين بقايا الحثيين والطبيعة الجبلية الخلابة.

أولوكيشلا: وادٍ يقطع جبال طوروس، شهد عبر التاريخ مرور القوافل والمعادن الثمينة من الذهب إلى الرصاص.

بزنطي: مدينة جبلية تطل على سهول تشوكوروفا، ذات أهمية تاريخية كمعبر استراتيجي نحو البحر.

أضنة: رابع أكبر مدن تركيا، تقع في قلب كيليكية التاريخية، وتجمع بين عبق الحضارات القديمة وطبيعة المتوسط النضرة.

السفر بالقطار... حين يصبح الطريق هو الوجهة

في زمن السرعة، يبدو ركوب هذه القطارات أشبه برحلة في الزمن — تذكيرٌ بأن الجمال لا يُقاس بعدد الكيلومترات، بل بما يمرّ أمام النافذة من مشاهد، وما يتركه في القلب من أثر.

تلك العربات التي تهتزّ بخفة، والمقاهي الصغيرة في المحطات الريفية، والوجوه التي تودعك بابتسامةٍ على الرصيف، جميعها تفاصيل تُعيد تعريف معنى السفر.

من أنقرة إلى أضنة، ومن إزمير إلى إسبرطة، تظل سكك الحديد التركية أكثر من مجرد خطوطٍ حديدية — إنها ذاكرة وطنٍ يتحرك على إيقاع الحنين.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!