
ترك برس
تناول تقرير للكاتب والمحلل التركي نيدرت إيرسانال، في صحيفة يني شفق، اتفاق التعاون الدفاعي بين تركيا وبريطانيا بشأن مقاتلات "يوروفايتر تايفون"، مبرزًا أبعاده الاستراتيجية والسياسية التي تتجاوز الجانب التقني.
فبينما يُقدَّم الاتفاق رسمياً كخطوة لتعزيز دفاعات الناتو على جناحه الشرقي، يرى إيرسانال أنه يعكس تحوّلًا أعمق في علاقات أنقرة مع أوروبا وبريطانيا، وسعيها لتوسيع هامشها بين واشنطن وموسكو.
ويحلل الكاتب كذلك موقع الصفقة في خريطة التنافس بين أوروبا والولايات المتحدة، ودورها المحتمل في موازنة النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة، مع الإشارة إلى أن الصفقة تحمل بعدًا اقتصاديًا وتنمويًا ضمن مساعي أنقرة للانخراط في الصناعات الدفاعية الأوروبية.
وفيما يلي نص التقرير:
وقع الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يوم الاثنين، اتفاقية تعاون بين البلدين بشأن مقاتلات "يوروفايتر تايفون"، تمهيداً لبدء عملية شراء هذه الطائرات.
هناك العديد من القضايا التي ينبغي مناقشتها فيما يتعلق بالجانب التقني من الاتفاق، ولا أقصد بذلك قدرات الطائرة فحسب، بل خصائص الاتفاق نفسه أيضا. ولا أقول إن هناك “أموراً خاطئة”، بل أفترض أن التفاصيل الكاملة لم تُعلن بعد، نظراً لأننا ما زلنا في الأيام الأولى من الاتفاق.
حتى الآن لم أسمع أحداً يقول إن الاتفاق "خاطئ بالكامل"، وهذا أمر جيد. ولم أسمع أيضاً من يقول: "كان الأفضل لو حدث كذا، لكن لا بأس، سنتدبر الأمر". أو ربما فاتني ذلك. ومن المتوقع أن تُفصح وزارة الدفاع التركية قريباً عن تفاصيل بنود الاتفاق والأسباب الكامنة وراء تفضيل هذه الطائرة...
تُناقش قضية يوروفايتر في الغالب من خلال الخصائص التقنية وقدرات هذه الطائرات. وهناك أيضاً من يتحدث عنها على المستوى السياسي، لا سيما كجزء من التنافس العسكري مع اليونان.
لكن يجب أن يكون السياق الاستراتيجي للحصول على أسلحة من هذا العيار من بريطانيا وألمانيا وتشكيل المخزون العسكري أهم من كل ما سبق..
إن وسائل الإعلام اليونانية أسوأ من وسائل إعلامنا؛ فهم يثيرون ضجة هائلة حتى لو أضفنا رصاصتين إضافيتين إلى مخازن مسدساتنا، ناهيك عن شراء طائرات مقاتلة. وعندما يتصاعد هذا الجدل، فإن مؤسساتنا الإعلامية لا تتوانى عن الرد. ووسط غبار هذه الضجة، تُدفن الأسئلة الجوهرية التي تثير الفضول وتضيع.
لا أعتقد إطلاقاً أن هذه الطائرات المقاتلة تُشترى لمواجهة اليونان. فالنظر إلى المسألة بهذه الطريقة يعني ضمناً أنّ بريطانيا وألمانيا، وبقية الشركاء الأوروبيين، يزوّدون تركيا بهذه الطائرات خصيصاً لمواجهة اليونان، وهذا غير صحيح.
أما رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، فقد أوضح بنفسه وظيفة هذه الطائرات — من وجهة نظره طبعاً — سواء في كلمته خلال حفل التوقيع أو في البيان الرسمي الصادر عن مكتبه، حيث قال إنها مخصصة: "للدفاع عن الجناح الشرقي لحلف الناتو". واليونان أصلاً دولة عضو في الناتو، لذا عند الحديث عن "الجناح الشرقي للناتو"، ما هي الدولة أو الدول الأخرى التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن؟
لا شك أن روسيا تحتل المرتبة الأولى في هذا التقييم للتهديدات. (وقد فهمت أوروبا الأمر على هذا النحو؛ إذ نشرت وكالة بلومبرغ بعد ساعة واحدة من التوقيع خبراً بعنوان: "المملكة المتحدة تبرم صفقة طائرات بقيمة 8 مليارات جنيه إسترليني مع تركيا، في إشارة إلى بوتين"، بتاريخ 27 أكتوبر). وعند استحضار العداء المستحكم بين بريطانيا وروسيا، والموقف الأوروبي الراسخ ـ وخاصة ألمانيا ـ تجاه أوكرانيا، يتضح ما الذي تسعى إليه كل من برلين ولندن.
إلى جانب ذلك، ترى الحكومات الأوروبية في مثل هذه الاتفاقيات وسيلةً لتحويل قطاع الدفاع إلى محرّكٍ للنمو الاقتصادي. لكنها لا تطرح هذا التفسير أمام الرأي العام، بل تستعيض عن ذلك بالإشارة إلى "التهديدات".
وحين تخطط الدول لتطوير وتعزيز معداتها الدفاعية، فإنها تعتمد على تقديرات دقيقة للمخاطر تزنها بميزان حساس للغاية.
ومن بين مصادر الخطر المحتملة يمكن الإشارة إلى إسرائيل والولايات المتحدة عبر سوريا، والاحتمال الثالث هو إيران. ومن غير المرجح أن ترغب أمريكا أو بريطانيا أو ألمانيا في نشوب صراع محتمل بين إسرائيل وتركيا. ويمكننا أن نصيغ الأمر بطريقة أخرى: في الوقت الذي تطلب فيه أنقرة الحصول على طائرات F-35 وF-16 من الولايات المتحدة، وتُبدي استعدادها الفوري لشرائها متى أُتيح لها ذلك، وبينما تبدو علاقاتها السياسية أقرب إلى إدارة ترامب منها إلى إدارة بايدن، فمن غير المنطقي افتراض أنّ هذه الطائرات سُتُوجّه ضدّ الولايات المتحدة أو حلفائها. ومثل هذا الاحتمال لا يُطرح إلا إذا تعرّضت تركيا لهجوم مباشر أو تهديد واضح من الولايات المتحدة أو إسرائيل، وهو ما لا يبدو واردًا في الوقت الراهن.
وبالتالي، تبقى روسيا وإيران، ويمكن تصنيفهما معاً ضمن خانة "خصوم الغرب". وإن شئنا توسيع إطار التحليل قليلاً، فيمكن القول إن هذه الخطوة جزء من التحصينات في الخطوط الأمامية للسياسات الموجهة نحو الصين.
ولا نعلم بعدُ موقف الولايات المتحدة من شراء تركيا لهذه الطائرات، وهو أمر مثير للاهتمام بحد ذاته. فحتى الآن لم يصدر عنها أي تصريح رسمي، لكنها بالتأكيد لن تُعلن رفضها علنًا. وعلى الأرجح، ستتناول الموضوع من زاوية “المساهمة في قدرات الناتو”، مع تمنياتها بالتوفيق.
لكن ما يتبادر إلى الأذهان أيضاً هو أن هناك دوائر في الأوساط السياسية الأوروبية عمومًا، وفي بريطانيا وفرنسا خصوصًا، غير راضية عن النهج الأمريكي في التعامل مع الحرب الأوكرانية، وتراه غير كافٍ. وهناك الكثير ممن يطالب بأن تكون الولايات المتحدة أكثر صرامة في مواجهة موسكو، وأن تزيد الضغط عليها.
وعلى الصعيد العالمي، من المعروف أن المملكة المتحدة وألمانيا تميلان إلى الإبقاء على علاقات أوثق مع الصين، ولا ترغبان في الانجرار الكامل وراء الموقف الأمريكي منها. وهما لا تعلنان ذلك صراحة، إلا أن الجميع يدرك حقيقة الأمر. فبعد رئيس الوزراء البريطاني، سيأتي المستشار الألماني إلى أنقرة في نهاية الشهر. وشريكهم التجاري الأول هو الصين، التي تجاوزت أمريكا مؤخراً.
باختصار، يمكن تناول ملف "يوروفايتر" كأحد عناصر التنافس بين أوروبا والولايات المتحدة. أو يمكن النظر إليه من منظور أنقرة، على أنه وسيلة ضغط أو حافز دبلوماسي لتسريع العلاقات الدفاعية مع الولايات المتحدة.
لقد ازداد اهتمام لندن بالمنطقة بشكل ملحوظ، والذي بدأ حتى قبل تغيّر الإدارة في دمشق، وكذلك الحال في علاقاتها مع تركيا. فإذا نظرنا إلى عدد اللقاءات الرسمية وتنوعها خلال السنة ونصف إلى السنتين الماضيتين، نلاحظ أن لندن كانت نشطة للغاية في هذا السياق. ويمكن أن نضيف إسرائيل أيضًا إلى هذا الإطار، فاعتراف بريطانيا بفلسطين كان تطورًا مهمًا رحبت به تركيا. وبالنظر إلى نفوذها المؤثر بالفعل في العراق وسوريا وجميع دول الخليج، يمكن القول إنها باتت فاعلًا رئيسيًا يشارك في مزيد من السيناريوهات الإقليمية.
وأخيرًا، لا يمكن تجاهل أن العلاقات التركية الأوروبية تحمل في طياتها بعداً آخر يتمثل في رغبة أنقرة في المشاركة في المبادرات التنموية الأوروبية، ولا سيما في مجالات الصناعات الدفاعية. وربما يكون هذا أحد أوجه دلالة صفقة "يوروفايتر" في هذا السياق أيضًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!











