ترك برس

تثير التحقيقات القضائية التي تستهدف شخصيات المعارضة في تركيا، أبرزها رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، جدلاً واسعاً حول توازن القوى السياسية واستقلال القضاء، في ظل اتهامات بالفساد والرشوة وغسل الأموال، وما إذا كانت هذه القضايا تؤثر على قدرة المعارضة على مواجهة حزب العدالة والتنمية والحفاظ على مكتسباتها الانتخابية.

وقبل يومين، أصبحت لائحة الاتهام التي أعدها الادعاء العام ضد رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، محور اهتمام الإعلام العالمي. إذ زعم الادعاء أن إمام أوغلو أسس منظمة إجرامية، وارتكب جرائم عديدة مثل الرشوة، والفساد، وغسل الأموال، والاحتيال، مطالبا بعقوبة سجن إجمالية تصل إلى 2353 عاما.

ويقول الصحفي التركي كمال أوزتورك، إن عدد سنوات السجن بحق إمام أوغلو، لفت أنظار وسائل الإعلام بطبيعة الحال. ومع ذلك، فإن القانون التركي لا يسمح بتنفيذ كل هذه العقوبات، وحتى في حال صدور جميع الأحكام، فإن إمام أوغلو قد يُسجن نحو 30 عاما فقط.

وأضاف في مقال له على موقع "الجزيرة نت" أن هذه الأخبار التي تتسم بالطابع الترفيهي ليست موضوع مقالي الأساسي. ما أود تسليط الضوء عليه هنا هو حالة المعارضة السياسية في تركيا.

وفيما يلي تتمة المقال:

منذ عام 2002، فاز حزب العدالة والتنمية في كل الانتخابات والاستفتاءات التي خاضها، وتصدرها كالحزب الأول. لا يوجد زعيم سياسي آخر في التاريخ التركي- بما في ذلك أتاتورك- بقي في الحكم منفردا لهذه المدة الطويلة سوى أردوغان.

أهذا دليل على نجاح أردوغان، أم على فشل المعارضة؟

ربما الجواب الأدق هو: كِلا الأمرين. فنتيجة لبقائه في السلطة هذه المدة، أُنهك حزب العدالة والتنمية وضعف نفوذه، وواجه لأول مرة في عام 2024 خطر فقدان الحكم. بل إن رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، ونائب رئيس الوزراء علي باباجان، انشقا عن الحزب وأسسا حزبين معارضين.

لقد أتيحت الفرصة للمعارضة لأول مرة منذ 25 عاما لإسقاط أردوغان والوصول إلى السلطة في هذه السنة.

بيدَ أن الأحزاب الستة التي تشكل المعارضة ارتكبت من الأخطاء وسلكت من السياسات الخاطئة، ما جعل الشعب يُعيد انتخاب أردوغان رئيسا، رغم سحب البلديات من حزب العدالة والتنمية.
بكلمة أخرى: إن نجاح أردوغان السياسي لا يتحقق إلا بفضل فشل المعارضة، ولهذا لا يتغير الحكم في تركيا.

لماذا تُحاكَم المعارضة أمام القضاء؟

في انتخابات عام 2024، حقق حزب الشعب الجمهوري (CHP) قفزة غير مسبوقة في أصواته على مستوى الحكم المحلي، متجاوزا حزب العدالة والتنمية. وقد اجتذب الرئيس العام الشاب، أوزغور أوزال، اهتماما كبيرا، وتولد اعتقاد واسع بأنه سيجلب لحزبه النصر في الانتخابات المقبلة. إذ فاز الحزب برئاسة بلديات 35 ولاية، منها مدن كبرى مثل إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، وأنطاليا، متصدرا بذلك الأحزاب كافة، وباعثا على الأمل.

لكن رئيس الحزب السابق، كمال كليجدار أوغلو، ألمح في المؤتمر العام الأخير للحزب إلى تعرضه لمؤامرة، وأن الأصوات انتُزعت منه عبر الرشوة والتلاعب، وأن انتخاب أوزغور أوزال تم بهذه الطريقة. وقد لجأ بعض المقربين منه إلى القضاء مطالبين بإلغاء المؤتمر العام. وهكذا بدأت المعارك القضائية داخل الحزب.

لم يكن أحد يعلم بوجود مخالفات في المؤتمر قبل اللجوء إلى القضاء، لكن بمجرد رفع الدعوى، قُدمت فرصة ذهبية لمعسكر السلطة، وقد أحسن استغلالها، ما تسبب في نشوب صراع داخلي كبير داخل الحزب. توقف ارتفاع أصوات الحزب، وتراجع عن موقعه كأول حزب في البلاد.

أضيف إلى ذلك ورود بلاغات تفيد بوجود رشى وفساد وتلاعب في المناقصات داخل بعض البلديات التابعة لحزب الشعب الجمهوري.

والمفارقة أن من قدم هذه البلاغات هم أعضاء ومسؤولون في الحزب نفسه. ونتيجة لذلك، فُتحت قضايا عديدة، واتسعت التحقيقات في الفساد، وامتدت إلى عدد كبير من بلديات الحزب. ومرة أخرى، لم تفوت الحكومة هذه الفرصة التي قُدمت لها على طبق من ذهب.

لماذا اعتُقل أكرم إمام أوغلو؟

المشكلة الكبرى داخل حزب الشعب الجمهوري تمثلت في أن رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، بدأ يبرز نفسه مبكرا كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، بدافع طموحه الزائد. وهكذا بدأ الجدل الداخلي في الحزب، وتكاثرت السهام الموجهة إليه.

إمام أوغلو لا يُعد من التيار اليساري، بل ينتمي إلى تيار اليمين السياسي، ولذلك لم يُقبل تماما داخل الحزب، وكان هناك عدد كبير من السياسيين يعملون ضده، ما سهل عمل الحكومة بطبيعة الحال. غير أن طموحه في الوصول إلى الرئاسة كان شديدا إلى حد أنه- بحسب الادعاءات- أسس تنظيما وجمع أموالا ضخمة، وانخرط في الرشوة والفساد.

نُشرت في وسائل الإعلام مقاطع فيديو، ومستندات، واعترافات، استمرت لأيام. على إثر ذلك، فتح مكتب الادعاء العام في إسطنبول تحقيقا رسميا. ومع تعمق التحقيقات، اتضح أن الشبكة الإجرامية كانت واسعة النطاق، وأنها امتدت إلى بلديات أخرى. وفي النهاية، جرى توقيف أكرم إمام أوغلو، وعدد كبير من رؤساء البلديات.

وقد أُنجزت لائحة الاتهام، التي استغرق إعدادها نحو سبعة أشهر، في الأيام القليلة الماضية، وقدمت إلى المحكمة. وجاءت في 3900 صفحة، واتهم فيها الادعاء العام أكرم إمام أوغلو وستة من رفاقه بتأسيس منظمة إجرامية تهدف إلى الإثراء غير المشروع، والاستيلاء على حزب الشعب الجمهوري، وتوفير مصادر مالية للوصول إلى رئاسة الجمهورية.

وُجهت اتهامات إلى 402 شخص في المجمل، منها: الرشوة، والفساد في المناقصات، وغسل الأموال، وسرقة البيانات الشخصية. وقد استفاد 76 شخصا من "ندم الجناة"، وأقروا بجرائم متعددة خلال التحقيقات.

مشكلة القضاء في تركيا

تركزت النقاشات التي أثارتها التحقيقات مع بلديات المعارضة حول أزمة القضاء. فكل الاستطلاعات تشير إلى تدني الثقة بالمؤسسة القضائية، ويزداد هذا بوصفه مشكلة خطيرة. وتساءلت المعارضة مرارا: لماذا لم تُفتح تحقيقات مماثلة مع بلديات حزب العدالة والتنمية خلال 25 عاما؟ هل لم تحدث أي مخالفات قانونية هناك؟ كما تكررت الاتهامات بأن كثيرا من القضايا تغير مسارها في المحاكم نتيجة الرشوة والوساطات المالية.

في المقابل، ما يزال في ذاكرة الشعب التجارب السيئة التي أحدثتها المحاكمات الصورية الكاذبة التي قادها تنظيم "فتح الله غولن" (FETÖ) في السنوات الماضية. لذا، تراجعت الثقة في المحاكمات التي تستهدف المعارضة، وتعرضت لانتقادات واسعة.

ومع تصاعد هذه الانتقادات، جرى توقيف عدد كبير من الصحفيين في وسائل إعلام المعارضة بتهمة التهديد، والإساءة، ونشر أخبار كاذبة. وقد عزز هذا الانطباع بأن المعارضة ومؤيديها يعيشون تحت ضغط كبير.

أما الحكومة، فإنها تواصل التأكيد على أنها لا تتدخل في القضاء، لكنها لم تقنع بذلك أحدا تقريبا. كما أنها لم تُقدم على أي إصلاحات أو تجديدات تعزز الثقة في العدالة. والحال أن غياب الشعور بالعدالة يؤدي إلى اختلاط المذنب بالبريء، والمحق بالظالم، وينتج عنه وضع فوضوي.

ماذا لو أصبحت المعارضة أقوى؟

لو أن المعارضة في تركيا استطاعت أن تنال ثقة الشعب، وتقدم سياسات ناجحة تبعث على الاطمئنان، لكان المشهد مختلفا تماما. كان بمقدورها الفوز بالرئاسة كما فعلت بالبلديات. لكن طريق ذلك يمر عبر السياسة الرشيدة وإقناع الشعب. فالمعارضة القوية تدفع حزب العدالة والتنمية إلى أن يدرك أنه ليس بلا بديل، فيجبره ذلك على أداء أفضل، ويقوي الديمقراطية.

لكن في ظل محيط شرق أوسطي مشتعل كحلقة نار، ظهر أن المعارضة لم تطرح حلولا، بل حتى لم تفهم طبيعة المرحلة. وفي مثل هذا الوضع، ساد بين الناخبين شعور بأن تغيير الحكم قد يخلق حالة من الفوضى، ولذلك ما يزال حزب العدالة والتنمية هو الحزب الأقوى بحسب استطلاعات الرأي.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!