سمير صالحة - الشرق الأوسط

اللحظات التاريخية والمواقف التي لا تنسى في حياة الأتراك سيتزايد عددها هذا الأسبوع أيضا؛ في الـ27 من أغسطس (آب)، أي صباح غد (الأربعاء)، يجتمع المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية ليشهد عملية التسليم والتسلم بين رجب طيب إردوغان رئيس الحزب الحالي، وأحمد داود أوغلو الرئيس الذي سيخرج اسمه من الصناديق بالإجماع، ودون معركة انتخابية، استجابة لاقتراحات اللجنة المركزية في الحزب التي تلتزم بتوصيات استمزاج الرأي، كما قيل، مع أن قياداته تنتقد منذ سنوات جودة الممارسات الديمقراطية في دول المنطقة، والنتيجة المعروفة والمضمونة مسبقا وصيغة الإجماع والتوافق التي تتقدم على حساب الصوت المعارض، والتنافس الذي يقود، برأيها، إلى الشرذمة والتفكك وإضعاف وحدة الصف.

في اليوم التالي، أي صباح الخميس، في الـ28 من أغسطس، تجري عملية التسليم والتسلم بين عبد الله غل، الذي كان يمنِّي النفس بالبقاء، ورجب طيب إردوغان الرئيس المنتخب مباشرة من قبل «الجمهور التركي»، الكلمة التي يرددها إردوغان كثيرا في هذه الآونة، ويعتمد عليها سلاحا قويا يستخدمه في وجه معارضيه.

الرد الأقوى في هذه العملية الانتقالية جاء من قبل السيدة الأولى، خير النساء غل، التي دخلت على الخط فجأة، ولوحت بالرد، وبأنها لن تقبل بهذه الطريقة في التعامل، ومحاولات استهداف أسرتها من قبل أصوات وأقلام مقربين إلى الحكومة، مهددة ببدء «الانتفاضة الحقيقية» وسط أجواء أصعب من أيام 28 فبراير (شباط) 1997، وتهديدات المؤسسة العسكرية بالانقلاب على الإسلاميين، ومعركة الحجاب التي كانت بين من دفع ثمنها باهظا. غل - إردوغان لن ينجحا مطولا في إخفاء شيء ما حدث بينهما، ولا نعرف تفاصيله بعد.

في مطلع الشهر المقبل، سيقدم داود أوغلو تشكيلته الوزارية التي ستحمل أسماء وزراء جدد، لكن الأكثرية ستبقى في أماكنها. لا أحد يريد المغامرة عبر إغضاب قيادات الحزب وقواعده في عملية الانتقال والتغيير، قبل الذهاب إلى الانتخابات البرلمانية العامة التي ستجري في أواخر يونيو (حزيران) المقبل، والتي ستفتح الطريق أمام تشكيل فريق قيادة المرحلة المقبلة، إذا ما سارت الأمور كما هو مخطط لها.

أمام لافتة «تركيا الجديدة»، أعلن رجب طيب إردوغان أن مرشح الهيئة التنفيذية للعدالة والتنمية لمنصب رئاسة الحزب هو أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي، الذي التحق بالحزب عام 2003 ليقود عملية التجديد في السياسة الخارجية لتركيا.

ما نفهمه في شعار «تركيا الجديدة» أن إردوغان الذي حمل حزبه نحو الفوز في 10 انتخابات حتى الآن، بين عامي 2002 و2014 يريد أن يبقى على رأس السلطة حتى عام 2023 يقود احتفالات مرور مائة عام على إعلان الجمهورية التركية.

أما داود أوغلو، فقد لخص لنا فكرة «تركيا الجديدة»، خلال كلمة الشكر لاختياره، بأن العدالة والتنمية حزب قديم منبعه ومصدر وقوته جماهيره، بقيادة رجب طيب إردوغان. دولة وُصفت بأنها الرجل المريض تسير وراء هدفها التاريخي، وهي ستتصدى لمن يقف في وجه مسيرتها. التجديد ضرورة، لكن الذي سيستمر ولن يتغير هو القضية التي تبنيناها.

مؤهلات داود أوغلو تجعله أحد أفضل الأسماء لتولي هذه المهمة الجديدة؛ هويته الإسلامية والمحافظة ومواقفه الليبرالية وصداقته للعدالة والتنمية هي بين أهم أسباب اختياره. داود أوغلو يردد أنه لا يليق بتركيا أن تكون متفرجا في مسائل تعنيها هي مباشرة، لكن خصومه يقولون إن طروحاته فشلت في أكثر من مكان، وعلى أكثر من جبهة.

تسلم داود أوغلو رجل النظرية والتطبيق لموقع القيادة في «العدالة والتنمية»، ومنصب رئاسة الوزراء يحمل معه أملا برؤية الممكن والمستحيل، الحلم والحقيقة، الهدف والقدرات، وكلها مسائل اختبرها مطولا في الأعوام الأخيرة على رأس الدبلوماسية التركية.

«تركيا الجديدة» شعار بدأ منذ الآن يقلق البعض ويحتاج إلى شرح وتفسير. تركيا جديدة بحلة داخلية، أم جديدة في علاقاتها مع العالم الخارجي؟

هل سيكون التجديد محصورا في صفوف القيادات والبرامج والمشاريع داخل تركيا أم أنه سيعني دول الجوار ويلزمها بالتعاون مع الشعار كما فعلنا قبلها أيضا؟ نحن الذين سنجدد أنفسنا وتطلعاتنا أم أننا سنتحرك لنقود مرة أخرى عربة التجديد باتجاه دول المنطقة، كما حدث مع «الربيع العربي»، الذي تركناه في منتصف الطريق، وتخلى عنا هو الآخر، بعدما تعرض لخيبة أمل موجعة؟

بدأنا بالمصالحة التاريخية، فوجدنا أنفسنا أمام القطيعة التاريخية التي لا تختلف كثيرا عن أيام نهاية الحرب العالمية الأولى.

«تركيا الجديدة» شعار نرفعه في الداخل، ومن أجل الداخل والسياسات الداخلية الإنمائية والاقتصادية والإصلاحية التي تنتظرنا، وعددها لا يحصى، طبعا بينها التخلص من دستور العسكر، وإنجاز المصالحة التاريخية مع الأكراد، وحسم وإغلاق ملف الكيان الموازي حتى لا يتحول إلى حكاية «إبريق زيت» سياسية وانتخابية. أما في بعده الخارجي، فلا بد أن يكون محاولة لترميم ما تهدم من علاقات مع دول الجوار أو حماية ما تبقى.

«تركيا الجديدة» تعني الاستعداد لعام 2023 إنمائيا وإصلاحيا، بلباس جديد يرضي الداخل ويعجب الخارج، بعيدا عن إقحامنا مرة أخرى في ورطة الشعارات الكبيرة التي لوحنا بها، من خلال لعب أوراق الشعوب لإحراق أوراق القيادات، فوجدنا أنفسنا فوق جسور تهتز من تحتنا، بعيدين عن هدف التصفير، والإسلام المعتدل، والعودة، والمصالحة التاريخية.

داود أوغلو فرصة للداخل والخارج، ويحتاج إلى أن نكون إلى جانبه في هذه المرحلة الانتقالية، لكن مسيرته ستبدأ من البحث عن «العمق الاستراتيجي» الذي يوفر له داخل العدالة والتنمية الاستقلالية وإطلاق يده في القرارات والقيادة، ليقطع الطريق على الأصوات التي بدأت منذ الآن تتحدث عن إعادة الأمانة لأصحابها، بعد إنجاز عملية تغيير شكل النظام في تركيا.

شعار «تركيا الجديدة»، كما نفهمه، لا يعني إطلاقا القطيعة مع تركيا «القديمة»، خصوصا لناحية إنجازات العدالة والتنمية الداخلية خلال العقد الماضي، والتجديد سيعني إفساح المجال أمام الوجوه الجديدة لتقود وتساهم هي الأخرى في مواصلة مسيرة البناء.

إردوغان وداود أوغلو من الطاقم القديم الذي سيقود عملية التجديد، والأشهر القليلة المقبلة هي التي ستحسم المسألة أمام صناديق الاقتراع، هل سيقبل الناخب التركي بمعادلة من هذا النوع؟

«تركيا الجديدة» شعار جديد، لكن معظم اللاعبين سيكونون قدماء. لا مشكلة في ذلك إذا ما كانت الرؤية والتوجهات والبدائل سيجري مراجعتها وتجديدها، أما العكس فسيبقينا في ورطة ما الذي نريده ومع من سنفعل ذلك؟

الدعوات وُجّهت لكبار القادة والزعماء في العالم للمشاركة في احتفالات تولي إردوغان منصب الرئاسة. الحضور سيساعدنا ليس على تحديد موقعنا الجيو - استراتيجي، بل على اكتشاف مسار علاقاتنا مع القريبين والبعيدين. نتمنى ألا يكون عدد المتغيبين «لارتباطات بمواعيد سابقة» كبيرا، فالمشهد يعني مسار ومستقبل شعار «تركيا الجديدة» أيضا.

أقلام وأصوات عربية بدأت منذ الآن تحذر إردوغان من مسامير تُدق في نعش تجربته من قبل «إسلاميين عرب»، وخصوصا «أولئك الذين ما كان لهم يد في تجربة أحد إلا أفشلوها»، وتدعوه ليبقى «في محيطه ولا يبرحه ابتغاء أن تطّرد نجاحاته في أهله وناسه».

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي