د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
ولد الشّاعر والأديب التّركي نامق كمال في قصبة "تكفور داغي" سنة 1840 م، وكان جدّه، أبو أمّه مُحصّلا هناك، والمحصّل لقب لمنصب قديم في الدّولة العثمانية يُقابله في الفرنسية Percepteur فأرّخ عارف أفندي أحد شعراء تلك الأيام مولده بهذا المصراع: ايردي شَرف بُو دَهْره محمد كمال ايله. ومعناه بالعربية: "لقد تشرّف هذا الزّمان بمولد محمد كمال".
وقد تسلسل كمال بك من بيت عريق في الحسب والنّسب، فوالده مصطفى عاصم بك وجدّه شمس الدّين بك القرين الأول لجلالة السّلطان سليم الثالث، ووالد جدّه القبطان أحمد راتب باشا من نوابغ الشّعراء. ولمّا ترعرع دخل في مدرسة بيازيد فقضى فيها بضع سنين، ثمّ انتظم في سلك تلامذة مدرسة "الوالدة سلطان" لكنّه لم يمكث فيها إلا بضعة أشهر فخرج منها سنة 1851م وهو في الثانية عشرة من عمره فقضت الأحوال أن يسير والده بمهمّة إلى "قارصه" فلم يعد يستطيع مزاولة الدّرس، وذلك دليل على أنّ ما اشتهر به بعد ذلك من العلم والفضل إنّما بلغ إليه بالجدّ والاجتهاد من تلقاء نفسه لا بواسطة المَدارس.
وأوّل ما جال بخاطره وأخَذ بمجامع قلبه في إبّان شبابه الشّعر، فنظم القصائد الحسان، وكان أهل الآستانة يتناقلون أقواله ويتحدثون به وبذكائه حتّى لقّبوه "نامق"، وأوّل شعر اشتهر به قصيدة نظمها وهو في السّابعة عشرة من عمره قال في مطلعها:
ظهور انك كثرت برتو نور خداوندر تلون هيأت اشياده تأثير ضيادندر
ومعناه:
إن للكثرة (ربما يُريد الجماعة أو الاتّحاد) لونًا أو شكلاً حاصلاً من انعكاس نور الله، كما أن ألوان الأشياء في الطبيعة ناتجة عن انعكاس نور الشّمس.
وسار نامق كمال في نسق شعره على خطوات الشّاعرين التّركيين المشهُورين "نفعي" و"فهيم" فبلغ من ذلك شأوًا عظيمًا ونبغ بالأشعار الحماسيّة والفخريّة ومن قوله في الفخر:
بز أول عالي همم ارباب جد واجتهاد زكيم جهانكيرانه بر دولت جيقَاردق بر عشيرتدن
ومعناه:
نحن الأُولى نشأنا من أمّة حقيرة وبجدّنا واجتِهادِنا أنشأنا دولة عظمى من عشيرة
وفي عام 1860م تولّى تحرير جريدة "تصوير أفكار"، وكان مع ذلك يزاول التّرجمة في الباب العالي. ومن هذا التّاريخ أخذت أفكاره وآراؤه في الظهور. فلم يغادر موضوعا أدبيّا أو فلسفيّا إلاّ طرقه وأجاد فيه فلقّبوه "كمال" بدلاً من "نامق". وكانت جريدة "تصوير أفكار" هذه فاتحة النّهضة التّركيّة الحديثة من حيث الإنشاء والأدب، فهي أوّل جريدة تركيّة خاضت في المناظرات الأدبية التي استلفتت انتباه أهل اللّسان التركي، وأهم تلك المناظرات ما قام بينها وبين جريدة "روزنامه جريدة حوادث"، وكانت حدا فاصلاً بين الإنشاء التركي القديم والإنشاء الحديث. ومن ذلك الحين أخذت الآداب الحديثة في الانتشار هناك وكثر أتباعها وأشياعها.
واتفق إذ ذاك سفر العلامة شِناسِي مؤسس جريدة "تصوير أفكار" إلى باريس لدواعٍ اقتضت ذلك فعهد بإدارة جريدته إلى نامق كمال وكان ذلك سنة 1864م، وكان في ريعان الشباب، فاعتزل العلم والشّعر وانقطع إلى السّياسة بالرغم عنه. ولا يخفى ما في ذلك من التكلّف والمشقّة ممّا لا يُفلح فيه إلا نوابغ الرّجال القادرُون على تكييف مواهبهم حتى تُطابق وظائفهم. وربما لو اقتصر هذا الأديب على نظم الشّعر لبلغ منه مبلغًا فاق به "نفعي" الشّاعر الشّهير، ولكنّه لو فعل ذلك ما استطاع مَا استطاعه من خدمة بلاده وشعبه خدمةً كان يسعى في سبيلها ليله ونهاره.
ولا نقول ذلك امتهانًا للشّعر فإنّنا نقدّره حق قدره، ولكنّنا لا نرى له ما نرى للنّثر من التأثير في ترقية شأن الآداب. ومن الشّواهد على ذلك "هيغو" و"تيرس" العالمان الفرنسيان الشهيران فـ"هيغو" أشعر شعراء الفرنسيّين في القرن التّاسع عشر، ولكنه لم ينفع أمّته بنظمه كما أفادها "تيرس" بأدبه وسياسته.
وجملة القول أنّ نامق كمال اندفع بكلّيته إلى السّياسة وعلم الأخلاق، وهما ركنا الأدبيّات فبث بين أبناء لغته روحًا عصريّة نشّطتهم وفتحت عيونهم وقلوبهم. وبعد أن كنت لا ترى بين الأتراك إلا عددًا قليلاً من الكُتّاب أصبح كُتّابهم يُعدّون بالمئات والألوف، وربما كان جزء من الفضل في ذلك راجعًا لهذا الأديب، فإنه هو الذي أحيا فيهم حبّ العلم وحبّب إليهم الأدب بما كان ينشره بين ظهرانيهم أو يشنّف به آذانهم من المقالات الرّنانة في "تصوير أفكار" وغيرها ممّا قد ألبس اللّغة التركيّة حلّة عصريّة جديدةً.
وأول ما نُشر من مؤلفاته رسالة "دور استيلاء" وقد طبعت سنة 1866م، يقول أبو الضياء أحد الأدباء المعاصرين للشّاعر نامق كمال: وقد أملى عليّ هذه الرّسالة في السّاعة الثالثة من الليل، في اليوم الحادي عشر من رمضان المُبارك سنة 1865م فخَبرتُ بها مَقدرَته على الإنشاء، فإنه أوعز إليّ أن أتناول القلم والورق ثم أخذ يُملي عليّ فقال (وقتا كه مقدما)، فلم أتمالك عن التّوقف محتارًا فقال: ما بك لا تكتب؟ فقلت: لا أعرف حتّى الآن عبارة تبتدئ بلفظ (وقتا كه) وكنت أظنّ أنّك تُخاطبني في شأن من الشّؤون. فتبسم وقال: اُكتبْ ما أقوله لك وستعلم. وما زال يُملي عليّ، وهو يخطو ذهابًا وإيابًا، تارة يقف وطورًا يطوف غُرف المنزل حتى انتهت الرّسالة في السّاعة العاشرة فجاءت كما قيل "الفاتحة مكتوبة على أرز"، وما زال ذكرها مُتغلّبًا على كلّ ما كتبه بعد ذلك.
ومن مواهبه حدّة اللّسان وقوة الحُجّة فإنّه لم يُناظر كاتبًا أو خطيبًا إلاّ ظهر عليه وأفحمه. ومن آثار فضله أنّه أدخل الآداب التركيّة في مرحلة جديدة، فقد كان كتّاب الأتراك منذ ستمائة سنة سائرين على خطّة واحدة في آرائهم وإنشائهم، فجاء نامق كمال فنوّع الإنشاء تنويعًا هو أساس النّسق التركي الحديث.
وممّا يُذكر له أنّه لم يستخدم قلمه لهجوٍ ولا أدخل في إنشائه ألفاظًا بذيئةً أو معاني مخجلةً. وكان يستخدم ألفاظا لغوية لم يألفها العامّة لكنّه كان يسبكها في قالب يَسهل عليهم فهمها. وهذه أشهر مؤلفاته وترجماته:
- تراجم الأحوال: ترجمة صلاح الدّين الأيوبي والسلطان سليم ومحمد الفاتح وأمير نوروز.
- "حكايات وروايات"، و"وطن" وهي رواية تُرجمت إلى اللغات الألمانية والرّوسية والفرنسيّة، و"كُل نهال" و"عاكف بك"، و" زواللي جوجق"، و"انتباه" و" جزمي".
- رسائل: دور استيلاء، بارقهء ظفر، قانيزه، حكمة الحقوق، مكتوب إلى عرفان باشا، بزون مؤاخذه سي، تخريب، تعقيب، مقدّمة جلال، بهاردانش، ومنتخبات تصوير أفكار.
- مقالات متنوّعة: تصوير أفكار، مخبر، حرّيت، عبرت وبصيرة، حديقة، اتحاد، صداقت. وغير ذلك من المقالات كان يكتبها إلى أصدقائه وفيها الحكم الفلسفيّة والأدبيّة.
- ترجمة عن اللّغات الأجنبية: شرائط الاجتماع لمؤلفه روسو، روح الشّرائع لمؤلفه مونتسكيو، وبعض كتابات بيكون وفولني وغيرهما. وقسم كبير من كتابات كوندرسه تحت عنوان "تاريخ ترقيات أفكار بشر".
وكان في أثناء أعماله هذه مشتغلاً بتأليف التّاريخ العثماني، وهو تاريخ مطوّل بحث فيه عن عظمة هذه الدّولة وما مرّت به من الأدوار من أوّل عهدها إلى عدهده. وله مقدّمة يصح أن تُسمى وحدها تاريخ الإسلام لأنّها حوت كلّ ما وقع من المسلمين من البعثة إلى ظهور السّلطنة العثمانية وكل ما رافق ذلك من الحوادث في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وكانت وفاته بعلّة الخناق الصّدري أو الرّبو، فلم تمهله إلا عشرة أيّام، وتوفي بعد ظُهر الثامن من ربيع الأول سنة 1888م.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس