د. إسلام حلايقة - خاص ترك برس
يبدو أن أوروبا - التي تُعتبر ألمانيا اليوم بمثابة الآمر الناهي فيها - قد استشعرت بأنها قدمت ثمنا باهظا لتركيا لقاء موافقة أنقرة على اتفاق إعادة اللاجئين الذي أبرمته منتصف شهر آذار/ مارس الماضي في العاصمة البلجيكية بروكسل، فأرادت أن تضغط على تركيا وتبتزها في ملفات أخرى حتى تخفف من سقف مطالبها، وذلك باستخدام أوراق ضغط عديدة، كان أبرزها قضية الأرمن، التي تجعل منها ألمانيا وأوروبا عموما سيفا مسلطا على عنق أنقرة كلما اقتضت الضرورة.
فرغم أن المطالب التركية ليست بالمعجزة أو الخارجة عن المعقول، حيث تقتصر على رفع تأشيرة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي عن المواطنين الأتراك وبعض التعويضات المالية، (كلا الشرطين لم تلتزم بهما أوروبا)، ورغم تنفيذ أنقرة لكافة بنود ذلك الاتفاق، من تشديد الرقابة على السواحل والحد من تدفق اللاجئين، والأهم من ذلك القبول بإعادة اللاجئين الذين يصلون إلى الجزر اليونانية إلى أراضيها، ومع ذلك ظل الموقف الأوروبي متصلبا واتسم بالمراوغة والتأجيل، والمناورة بين مد وجزر، فبينما رأينا المفوضية الأوروبية للاجئين قد أوصت في الرابع من أيار/ مايو برفع التأشيرة عن المواطنين الأتراك، رأينا العديد من الساسة الأوروبيين يدلون بين الحين والآخر بتصريحات رافضة لذلك القرار، وخرج من يكيل التهم والانتقادات إلى تركيا، حتى أن بعضهم شتم الأتراك داخل البرلمان الأوروبي، قبل أن يشترط الأوروبيون على أنقرة شروطا جديدة خارجة عن اتفاق بروكسل، أبرزها التخلي عن مكافحة حزب العمال الكردستاني والتنظيمات الإرهابية وغيرها من الشروط التعجيزية التي ترفضها أنقرة رفضا قاطعا، وكأن أوروبا التي تتعامى كليا عما يفعله نظام بشار الأسد في سوريا منذ خمس سنوات باتت تتباكى على "الحمل الوديع" الذي يسمى حزب العمال الكردستاني.
القيادة التركية التي تهلل وجهها لتوقيع اتفاق بروكسل، الذي اعتبرته حينها إنجازا تاريخيا، سرعان ما أدركت حقيقة تلك المراوغة الأوروبية، وهذا ما دفع رئيس الوزراء التركي المستقيل أحمد داود أوغلو في خطاب صارم له أمام البرلمان الأوروبي بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2016 إلى تحذير أوروبا من أن تركيا لن تظل ملتزمة بالاتفاق من جانب واحد، مهددا بإلغاء الاتفاق إذا لم تلتزم كل الأطراف بتعهداتها، وتبعه تصريحات مماثلة أخرى لوزير الخارجية مولود جاويش أوغلو ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الذي قال بلهجة يائسة، إن أوروبا إذا لم ترفع التأشيرة عن الأتراك فلن تأسف تركيا على ذلك وإن شيئا لن يتغير بالنسبة لها.
الصورة باختصار تتلخص في أن اتفاق بروكسيل بشأن اللاجئين اتفاق مفيد بل ضروري جدا بالنسبة لأوروبا، وعلى رأسها ألمانيا التي تعد الهدف الأول لأكثرية اللاجئين، فالاتفاق أنقذ أوروبا من "خطر" داهم بات يتهدد القارة العجوز ويقض مضاجع قادتها ليل نهار، لأنه حال دون تدفق أنهار اللاجئين عبر الأراضي التركي صوب أوروبا، في الوقت ذاته فإن أوروبا تريد اتفاقا خفيفا نظيفا قليل التكلفة، وتريد أن تتهرب من دفع الثمن الذي حددته تركيا، ولذا كان لا بد من البحث عن ذرائع جديدة ومبررات للضغط على تركيا لتقديم تنازلات في هذا الملف، ولهذا فقد كانت القضية الأرمنية - كما هي دائما - تشكل قميص عثمان، الذي تعلق عليه أوروبا كل تنصلاتها من التزاماتها حيال تركيا، وهذا يعيد إلى الأذهان التصلب الأوروبي القديم الحديث من قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، حيث عكفت أوروبا - التي يريد قادتها أن تكون ناديا مسيحيا خالصا - طوال العقود السابقة على اختلاق شروط جديدة كلما أوفت تركيا بسابقاتها من الشروط الأوروبية، وهكذا استمرت المراوغة حتى يومنا هذا.
يعتقد مراقبون أن من الأسباب الأخرى لفتور الرغبة الأوروبية بالاستمرار في الاتفاق مع أنقرة، أن الاتفاق لم يضع حلا جذريا لمشكلة تدفق اللاجئين صوب أوروبا، حيث راح اللاجئون ينطلقون بالآلاف من الشواطئ الليبية صوب إيطاليا ومن ثم إلى أوروبا، وهذا ما دفع روما للصراخ عاليا بضرورة إبرام اتفاق آخر مع ليبيا، وسبقها بلغاريا واليونان اللتان حسدتا تركيا على ما حققته من "إنجاز" وطالبتا بتوقيع اتفاقات مشابهة معها، فهل خشيت أوروبا فعلا من بروز التزامات جديدة ومن تحمل أعباء وأثمان جديدة تجاه أطراف مختلفة فترددت؟
بالعودة إلى تصويت البرلمان الألماني على قرار يصف ما حدث للأرمن عام 1915 بأنه إبادة جماعية من قبل الدولة العثمانية، في البداية لا بد من التذكير بأن القرار رمزي، وأنه مجرد توصية غير ملزمة. لكن إذا كان كذلك فما هو سر كل هذا الغضب والحنق التركي من القرار إذا؟ الحقيقة أن أبعاد هذا التصويت أكبر من كونه توصية بكثير، فهو فضلا عن أنه جاء للضغط على أنقرة لتقديم تنازلات بشأن تأشيرة الدخول واتفاق بروكسل، يشكل حلقة من سلسلة بدأتها فرنسا ثم الفاتيكان ثم البرلمان الأوروبي، وقد تتطور يوما ما لتصبح تهمة ملازمة لأنقرة، تفرض عليها التزامات ثقيلة وتعويضات وأعباء منهكة، ومسؤولية تاريخية لا تمحوها عقود من الزمن، وهذا ما يؤرق الأتراك ويرعبهم.
لكن بنظرة حيادية بسيطة، يتضح أن الخطوة الألمانية تحتوي على تناقضات ومغالطات كبيرة للغاية، وكأن التاريخ قد خلا من المذابح والإبادات الجماعية قديما وحديثا ما عدا مذابح الأرمن، يقول الأتراك إنه عند الحديث عن المحرقة أو عن الإبادة فإن آخر من يحق له الحديث عن هذا الموضوع هو ألمانيا، التي لا يجهل قارئ متواضع في التاريخ الحديث محارقها وما سببته للبشرية من إبادة ومقتلة يأبى التاريخ تقديم أي تحريف فيها.
ألمانيا ذاتها التي تغض الطرف عما يتعرض له شعبا سوريا والعراق من تطهير عرقي وإبادات يندى لها البشرية، وهي التي لم يصوت برلمانها على الإبادة التي يتعرض لها مسلمو ميانمار ولا ما تعرض له شعب البوسنة والهرسك في قلب أوروبا، وهي أي ألمانيا التي نفذت بالأمس القريب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في ناميبيا التي احتلتها.
هكذا يتضح بأن قضية الأرمن هي قضية يتم استثمارها أوروبيًا وألمانيًا من وقت لآخر لابتزاز أنقرة وتحقيق مآرب مختلفة، وإلا لماذا لا يحقق البرلمان الألماني والأوروبي في المذابح التي ارتكبتها العصابات الأرمنية بحق المدنيين الأتراك والعثمانيين خلال نفس الفترة، عندما انشقوا عن الجيش العثماني والتحقوا بصفوف القوات الروسية؟ تتساءل أنقرة.
لا يخفى على متابع انتهاج سياسة الكيل بمكيالين من قبل أوروبا، لكن الراجح أن مثل هذه الخطوة الألمانية، وإن كانت ستخلق أجواء من التوتر بين ألمانيا وتركيا، إلا أنه يستبعد أن تتطور الأزمة إلى مستويات أعلى أو أن تؤدي إلى قطيعة بين البلدين، لأن كلا البلدين بحاجة للآخر، ولكليهما مصالح وملفات مهمة عند الآخر، لكن في الوقت ذاته لا يبدو أن أنقرة ستقدم تنازلات فيما يتعلق بالشروط التي تم الاتفاق عليها في بروكسل، بل ربما تتخذ قرارات أكثر حزما، منها ما تناقلته وسائل إعلام عديدة مؤخرا، عن تعليق أنقرة لعملية استقبال المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون للسواحل الأوروبية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس