محمد حسن القدّو - خاص ترك برس
أدرك الأتراك بكل طوائفهم وطبقاتهم وأحزابهم أن الغاية من الانقلاب الذي حصل في الخامس عشر من تموز/ يوليو كانت لها غاية واحدة هي نسف الحياة الديمقراطية والاستقرار التي تعيشها تركيا والتي بدورها تؤدي إلى الإجهاز على كل المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأنهائها من خلال تعميم الفوضى في البلاد، بمعنى آخر أيقن الأتراك أن الانقلاب نسخة متجددة من الانقلابات السابقة والتي ابتدأت منذ عام 1960 وما تبعته من انقلابات عسكرية مسلحة أوعسكرية سلطوية فرضت إرادتها عبر الامتيازات التي منحتها الدساتير المتلاحقة للمؤسسة العسكرية التركية.
ولكن باختلاف كبير حيث أن الانقلابات السابقة كانت لا تعني الكثير للشعب الذي كان يعاني من ضائقة اقتصادية شديدة والحكومات التي كانت تتشكل كانت في معظمها حكومات ائتلافية ضعيفة (باستثناء حكومة عدنان مندريس الأولى والثانية) وهذه الحكومات الائتلافية لم تقدم للمواطن ما كان ينتظره من نمو اقتصادي ورفاه اجتماعي بل كانت هي عبارة عن حكومات تسيير أعمال مع بعض الإجراءات الاقتصادية الهامة والتي حدثت في عهد تورغوت أوزال وسليمان دميريل وتانسو شيلر المتحالفة مع حزب أربكان، لكن الشعب التركي الآن بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة بقطف ثمار الاستقرار السياسي في كافة الأنشطة الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حيث أصبحت تركيا إحدى الدول العشرين الأغنى في العالم وتحولت كل تركيا بأنحائها الأربعة إلى ورشة عمل وإنتاج نهضوي لم تشهده الجمهورية التركية منذ تأسيسها.
إن حزب العدالة والتنمية لا يملك قسمات أيدولوجية محددة وثابتة تستقطب البعض وتهمل البعض الآخرعلى عكس الأحزاب التركية الأخرى، وهذا ما جعله مثار اهتمام فائق بحيث أصبح الحزب الوحيد من نوعه في تركيا والذي يمكن وصفه بالحزب الشعبي لأنه أصبح ممثلا وعلى نحو متقارب ومتماثل في كافه المناطق وكافه طبقات الشعب، فضلا عن أنه استطاع أن يضم إلى صفوفه شخصيات بارزة كانت تنتمي إلى اليسار أو إلى اليمين.
على الرغم من قوة مُعارضة هذا الحزب فقد أصبح اليوم القوة السياسية القادرة على موازنة المصالح السياسية المقبولة من المجتمع لوجود هويات مختلفه في البلاد.
وبسبب قدرته على هذه الموازنة شكلت محورا تتطور في إطاره السياسة المجتمعية لتركيا صوب أهدافها في بناء دولة القانون والانفتاح الاقتصادي والتعددي.
هذه الأهداف التي يسعى إليها حزب العدالة والتنمية هي عبارة عن عملية منع حضور الدولة الطاغي على المؤسسة السياسية في قطار العسكر مرة أخرى وكما يحدث دائما ليتراجع النظام السياسي التركي إلى نقطة الصفر من جديد أو ليكون (مكانك سر) على أقل تقدير إلا أن من الواضح أن تركيا ماضية بكل ثقلها لتحقق أهدافًا سياسية واجتماعية واقتصادية توفر لها الحد الأدنى من المعايير الأوروبية في السلطة والقضاء والحريات الفردية الأساسية.
لقد أدرك حزب العدالة والتنمية حقيقة ما يعانيه النظام السياسي وكذلك ما يعانيه الشعب التركي من قهر وظلم وفقر وجوع ناتج بالأساس من البطالة والفساد الإداري المتمثل بالرشوة وعدم تكافؤ الفرص والاستغلال وعدم التوازن في توزيع الثروة.
إن تركيا لا تزال تواجه حكم النخب البيروقراطية سواء العسكرية منها أو المدنية وهي بهذا تواجه الكثير من المشكلات الكبيرة بسبب ترسيخ هذه الأفكار داخل البنية السياسية والاجتماعية في البلاد عبر الدساتير التركية الثلاثة والتي أعدت من قبل السلطات الانقلابية. وقد تم كتابة وإعداد الدستور والإشراف عليه من قبل أناس لديهم ذهنية طبقية بيروقراطية وعليه فإن الدساتير كانت تخدم هذه النخب المتسلطة وكان هذا واضحًا في وضع دستور 1982 بشكل خاص فهو يحوي الكثير من المساوئ والعيوب وهذا ما جعله عرضة للتعديلات الكثيرة من قبل الأحزاب السياسية، وكانت أغلب هذه التعديلات تتم باتفاق أحزاب السلطة والمعارضة والذي يعني إجماعًا على أن هذا الدستور غير ملائم لدولة تمهد الطريق بأن تكون عضوا في منظمة دولية أو اتحاد دولي.
إن إحدى مواطن ضعف التجربة التركية هو الدور الرئيس والفعال والحاسم للمؤسسة العسكرية عبر توغلها في مفاصل الحياة السياسية عبر مؤسسات مهيمنة بشرعية دستورية والتي كانت دومًا ترفع وتشهر سلاح القضاء المسيطر عليه من قبلها في وجه معارضيها كجزء من حماية كيانها المتسلط.
يختلف دستور عام 1961 عن دستور 1982 بخاصية فريدة، وهي أن دستور 1961 أقر بأن يكون البرلمان التركي مؤلفًا من مجلس النواب ومجلس الشيوخ لغرض ضمانة الاستقرار السياسي وإعطاء فرصة أخرى لكافة شرائح الشعب المنتخبة لغرض دعم الحياة السياسية وبناء دولة القانون، رغم أن العسكر هم من تقلدوا معظم الوزارات بالإضافة إلى منصب رئيس الجمهورية والذي كان من حصة العسكريين ابتداء من جمال غورسال وجودت صوناي وحتى انقلاب عام 1980 وبهذه أيضا لم تكن للمؤسسة الوليدة (مجلس الشيوخ ) أي تأثير حازم على استقلالية الحياة الحزبية والسياسية.
لذا فقد وضع الدستور التركي لعام 1982 خاليا من الإشارة إلى مجلس الشيوخ وكانت الحجة أن تركيا حديثة عهد بالحياة الحزبية والديمقراطية وليس هناك جدوى من تأسيس برلمان من طابقين.
لكن الآن وبعدما شعر المواطن بأهمية الحياة السياسية المستقرة ودافع عن البناء الديمقراطي ووقف بجرأة وإدراك ضد الانقلاب، أصبح الآن يبحث عن ضمانة أخرى لمزاولة الحياة الحزبية والسياسية للحفاظ على المكتسبات الاقتصادية المتنوعة والهائلة وخصوصا أن كل الأحزاب والشرائح الاجتماعية وقفت وقفة رجل واحد ضد الانقلاب وأنهت كل الخلافات الحزبية والعقائدية في لحظات الانقلاب، لنتسائل هل تشهد تركيا بناء مؤسسة ديمقراطية جديدة تحافظ على الحياة السياسية المدنية؟ والذي نقصده هو هل يلجأ الأتراك إلى أحياء مجلس الشيوخ من جديد في الدستور التركي القادم باعتباره صمام الأمان لإنهاء تاثير الخلافات الحزبية على الحياة السياسية وخصوصا مع بداية شهر العسل بين الأحزاب التركية مجتمعة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس