محمد زاهد جول - الخليج أونلاين
لا تتوقف التحليلات الغربية عن الحديث عن التقارب التركي الروسي، وكلها شبه مجمعة على التشكيك في هذا التقارب، وأنه لن يدوم، وأنه جاء بدوافع آنية من جراء الأزمات التي يعني منها بوتين وأردوغان.
كأن لقاء بوتين وأردوغان إنما جاء لتضميد جراح كل منهما، وبالأخص بعد الانقلاب الفاشل الذي استهدف حياة الرئيس التركي أردوغان شخصياً، كما استهدف الإطاحة بالحكومة التركية المنتهية والحزب الحاكم وتصفيتهم كلياً، والذي تشير معظم التحليلات أن المخابرات الأمريكية كانت مشاركة فيه، أو أنها كانت على علم به على أقل تقدير، وأنها كانت تتمنى نجاحه، بعد أن رفض الرئيس التركي أردوغان مراراً تنفيذ الأوامر الأمريكية دون مناقشة؛ وهو في رئاسة الوزراء من عام 2003 ولغاية 2014، وكذلك وهو رئيساً للجمهورية التركية من أغسطس/ آب 2014 ولغاية تاريخ الانقلاب الفاشل بتاريخ 15 يوليو/ تموز 2016.
بعض هذه التحليلات ترى أن حاجة تركيا إلى الغاز الروسي هو السبب الرئيسي للمصالحة التركية الروسية، فتركيا تعتمد على أكثر من 70% من الغاز على المورد الروسي، وتعد تركيا من أكبر المستوردين للغاز الروسي، الذي يدعم الاقتصاد الروسي في ظل عقوبات دولية على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا والقرم، ويربطون مع هذا الموضوع مشروع السيل التركي الجنوبي، وأن كلتا الدولتين لا تستطيعان الاستغناء عنه، بل يقولون إن مكاسب روسيا أكبر من مكاسب تركيا منه، بحسب وجهة نظرهم، ويرى آخرون أن السياحة التركية قد تضررت كثيراً بعد توقف أكثر من أربعة ملايين سائح روسي عن القدوم إلى المرافق السياحية التركية، إضافة إلى حاجة تركيا إلى استكمال بناء مفاعلاتها النووية التي رست مناقصاتها على روسيا في وقت سابق، وتوقف العمل بها بسبب إسقاط تركيا للطائرة الروسية السوخوي بتاريخ 24/11/2015.
ومن هذه التحليلات الغربية أن روسيا لم تعد بحاجة إلى تحميل تركيا مسؤولية خسارتها للحرب في سوريا، حيث إن روسيا حققت بعض النجاحات العسكرية، واستطاعت بناء قواعد عسكرية لها في سوريا، بل وفرضت هيمنة دولية لها في منطقة الشرق الأوسط بحكم وجودها العسكري على ساحل المتوسط، أي إن روسيا لم تعد بحاجة إلى العدو الدولي تركيا بعد أن كدست أسلحتها وصواريخها وطائراتها في سوريا في الأشهر الماضية، وهي بحاجة إلى تركيا التي استسلمت للأمر الواقع الروسي في سوريا، وكأن ما قامت به القيادة الروسية بمعاداة تركيا كانت مناورة لتبرير إرسال قواعد دفاع جوي س400 بحجة تركيا فقط.
ولعل من آخر هذه التحليلات الغربية أن سوء العلاقات التركية الأمريكية بعد الانقلاب قد وفر للرئيس الروسي بوتين أن يظهر صداقة عالية نحو الرئيس التركي أردوغان، وكأن حادثة إسقاط الطائرة الروسية كانت من التاريخ القديم، وأن الزعيمين التركي والروسي بحاجة إلى وضع حد للتردد الأمريكي في حسم بعض مشكلات الشرق الأوسط، والتي أثرت سلباً في تركيا وروسيا معاً، كما أثرت في دول المنطقة، مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها، ومن ثم فإن بوتين ينتهز سوء العلاقات التركية الأمريكية لتوثيق صداقة مع تركيا اقتصادياً أولاً، وبما يمكن أن تؤول إليه من تحالف روسي مع تركيا وإيران في مواجهة أمريكا في المنطقة والعالم، وأيضاً بحسب زعمهم، وتركيا في هذه الحالة تمثل الثقل الأكبر للإسلام السني كما تمثل إيران ثقله الأكبر الشيعي، ومن ثم فإن بوتين يكون قد أمسك بالعالم الإسلامي بتحالفات سياسية وقابلة لأن تكون عسكرية في المستقبل أيضاً.
وخلاصة هذه التحليلات في نظر أصحابها أن المصالحة التركية الروسية لن تدوم، والسبب في نظرهم أيضاً، أن الخلاف الأمريكي التركي يمكن أن يتم معالجته أولاً، وأن التحالف الاستراتيجي الأمريكي مع تركيا أقوى من أن يهتز بالتهم التي تم توجيهها من تركيا لأمريكا بالضلوع في الانقلاب الفاشل، وبالأخص أن هذه التهم إعلامية وشعبية، ولم تصدر من مصدر تركي مسؤول، ولم يتم التعبير عنها رسمياً من الحكومة التركية، وإنما هي تلميحات من بعض المسؤولين الأتراك لإحراج أمريكا لتسليم زعيم الكيان الموازي فتح الله غولن الموجود في أمريكا، والمتهم الرسمي من الحكومة التركية بأنه هو مدبر هذا الانقلاب الفاشل، وإن لم يكن العقل الأعلى، بحسب وصف الرئيس التركي أردوغان نفسه.
ويرى محللون آخرون أن التصرف التركي بالذهاب إلى سانت بطرسبورغ، ولقاء القيصر الروسي في قصر قسطنطين هو نوع من الامتعاض التركي من الموقف الأمريكي المتباطئ بالتنديد بالانقلاب أولاً، وعدم تقديم الدعم المباشر للحكومة الديمقراطية الشرعية ثانياً، وللضغط على الإدارة الأمريكية بأن السياسة التركية قد تكون مضطرة إلى البحث عن أصدقاء جدد إن لم تسلم أمريكا فتح الله غولن إلى تركيا ثالثاً، وبالأخص أن تركيا قدمت من الأدلة على تورط غولن بالانقلاب الفاشل ما يكفي، وبما لا يدع مجالاً لتشكيك أمريكا بالأدلة القاطعة، بما فيها شهادة رئيس هيئة الأركان التركي خلوصي آكار الذي أخبر رئيس هيئة الأركان الأمريكية في زيارته الأخيرة لتركيا بأنه هو شخصياً شاهد على تزعم فتح الله غولن للانقلاب الدموي الفاشل.
وأما التعويل على أن موقف روسيا كان أفضل من موقف أمريكا ومن موقف الدول الأوروبية الغربية الشريكة مع تركيا في حلف الناتو، باتصال بوتين مع أردوغان ليلة الانقلاب، وتقديم تعازيه لأهالي القتلى، بل ذهاب البعض في روسيا للقول إن المخابرات الروسية هي التي أفشت أسرار الانقلاب للمخابرات التركية، فهذا ما لم يقم عليه دليل حتى الآن، ولم تؤكده المخابرات التركية ولا الحكومة التركية علناً، ولا في بيان رسمي، ومن ثم فهي أشبه بتكهنات، وربما تكون أدلة عكسية على روسيا، بأن الرئيس الروسي بوتين الذي كان يستضيف وزير الخارجية الأمريكية عنده ليلة الانقلاب في موسكو أراد أن يقدم خدمة لكيري إن كان أردوغان حياً أم تم القضاء عليه، أو بهدف معرفة إحداثيات وجوده بتحديد مكان إقامته من خلال المكالمة الهاتفية، ويقابل هذه الفرضية فرضية أخرى أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف هاتف نظيره التركي جاويش أغلو من أربع إلى ست مرات ليلة الانقلاب، دون أن يتمكن من محادثته، بسبب احتمال أن تكون تلك المكالمات مراقبة أيضاً.
لا شك أن مثل هذه التحليلات الغربية تكشف عن تخوف غربي من إقامة علاقة وثيقة بين تركيا وروسيا، فحلف الناتو استطاع أن يقضم كثيراً من دول حلف وارسو المنهار ليجعل منها من مكاسب الحرب الباردة، وقد جعلها دولاً في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي أيضاً، حتى وصل الأمر إلى دعوة أوكرانيا لدخول الناتو ونصب صواريخ غربية فيها، وكل ذلك كان دليلاً على هزيمة أمريكا للاتحاد السوفييتي ووريثه جمهورية روسيا الاتحادية، ووضع روسيا في وضع دفاعي محض لسنوات طويلة، ومن ثم فإن أمريكا والغرب لا يمكن أن تقبل نجاحاً لبوتين في التحالف مع تركيا، حتى لو كلفها ذلك الشيء الكثير، لأن ذلك يعني تغير الوضع الدفاعي الروسي إلى وضع الهجوم، فإذا صح ذلك فإن هذه المخاوف الغربية تصبح محقة، لأن المشهد يعني أن بوتين يصارع الغرب على تركيا، ولا يبحث عن مصالحه الاقتصادية والسياسية فقط.
ولكن قبل أن يصل الغرب إلى هذه النتيجة، لماذا لا يسأل نفسه من المسؤول عنها؟ هل تركيا هي المسؤولة عن حالة ضعف العلاقات التركية مع أمريكا والدول الأوروبية؟ أم أن أمريكا هي المسؤولة عن ذلك؟ ومعها بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا والنمسا على وجه التحديد؟
إن تجاهل الغرب للإرادة الشعبية التركية التي أفشلت أول انقلاب أمريكي في تركيا عام 1960 على عدنان مندريس، بإعادة مسار الديمقراطية إلى وضعه الصحيح، هذه الإرادة الشعبية أصبحت قادرة على إفشال الانقلاب قبل إعدام الرئيس أو اغتياله، فصراع الدول الغربية التي تريد الهيمنة على القرار التركي، عليها أن تعلم أن صراعها لم يعد مع حكومات ولا أحزاب منتخبة ديمقراطياً، وإنما هو صراع مع الشعب التركي نفسه، ويكفي هذه الدول دليلاً أن الجيش التركي خرج من لعبة الانقلابات العسكرية بعد ثلاث محاولات، بدليل أنه لم يشارك في انقلاب غولن، وهذا يعني أن أمريكا لن تجد في المستقبل من الشعب التركي من يستطيع أن يعيد تركيا إلى عصر العبودية للغرب، لأنها لو وجدت مثل هؤلاء الخونة فسوف يكونون قلة منبوذة من الشعب التركي، وستجعل الشعب التركي بكل أطيافه ضدها، وتطهير البلاد منها، وعندها سيكون خطأ الغرب ليس السماح لروسيا أن تقترب من تركيا فحسب، وإنما بالسماح لبعض جنرالاتها المتهورين بالعبث بالأمن القومي التركي وهو حليف لها، فهؤلاء الجنرالات ومن تحالف معهم من الكيان الموازي هم المسؤولون عن هذه المغامرة الفاشلة، وعن تعكير صفو العلاقات التركية الغربية، وعليهم تحمل مسؤولية ذلك أمام القضاء الأمريكي والتركي معاً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس