بولنت أراس - مجلة ناشونال إنتيريست - ترجمة وتحرير ترك برس
ترمز العملية العسكرية التركية إلى مرحلة جديدة في الحرب الأهلية السورية. عارضت تركيا الدعوات للزج بقوات على الأرض منذ المراحل الأولى للأزمة السورية، وهو ما دفع أنقرة في النهاية إلى مواجهة تهديد ثنائي: التوسع الإقليمي لحزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، وتزايد هجمات داعش ولاسيما في المناطق الحدودية التركية السورية. ومن ثم كانت أنقرة تنتظر اللحظة المناسبة لشن عمليات متعددة المهام لوقف هذين التهديدين، وضمان أمن حدودها، وتعزيز موقفها في الأزمة السورية. هذه خلاصة أهداف تركيا التركية المتطورة في سوريا، والتي تعطي الأولوية حاليا لاستعادة الأمن الداخلي، وتطمح إلى دور فاعل على طاولة المفاوضات في مرحلة ما بعد انتهاء الصراع في سوريا بدلا من طموحاتها الأولى لإسقاط الأسد وخوض منافسة استراتيجية مع إيران وروسيا.
طرحت قضية إنشاء منطقة آمنة بين إعزاز وجرابلس في الداخل السوري بطول 98 كم وعرض 45 كم على طاولة المفاوضات بين تركيا ووقوات التحالف لمدة عامين، لكن تلك المفاوضات أخفقت بسبب التوازنات المتغيرة على الأرض (التدخل الروسي الإيراني وإحجام الولايات المتحدة) والخلاف حول من ينشر القوات البرية، مع التداعيات السياسية المحتملة في حال وقوع إصابات.
يُعرف الجيش التركي بالحذر. وليس سرا أنه قبل محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز كان لدى تركيا تحفظات كبيرة حول عملية عبور الحدود، فيما تسميه المؤسسة العلمانية "مستنقع الشرق الأوسط". كانت الأولوية الأولى في سوريا بالنسبة للمؤسسة العسكرية التركية المصالحة مع نظام الأسد وحلفائه لدرء خطر قيام كيان كردي مستقل في شمال سوريا والذي يتناقض منهجيا مع سياسة الحكومة. ومن جانب آخر فإن الدوائر المؤيدة للغرب بدت على استعداد للموافقة على عملية مشتركة مع القوات الأمريكية بحيث يمكن تجهيز الجيش السوري الحر لأخذ زمام المبادرة بالقوة البرية، وهو ما يتطلب بدوره حدا أدنى من المشاركة التركية.
على خلفية التعاون الوثيق بين الولايات المتحدة وحزب الاتحاد الديمقرطي الكردي في سوريا، وتصاعد موجة العداء للولايات المتحدة لدى الرأي العام التركي فإن فرصة التعاون على نطاق واسع بين الولايات المتحدة وتركيا بدت ضئيلة، وخاصة في أعقاب محاولة الانقلاب. وعلى ذلك شعرت تركيا بالحاجة إلى استعادة العلاقات مع القوى المناهضة للغرب والفاعلة في سوريا، وهما روسيا وإيران، ومع نظام الأسد بشكل غير مباشر. كانت المصالحة التركية الروسية في أواخر يونيو/ حزيران، التي أعقبها اجتماع الرئيسين بوتين وأردوغان في التاسع من أغسطس/ آب محاولة رئيسة من الجانب التركي لاستعادة دوره الفاعل في سوريا.
ومع عودة السلطة المدنية للسيطرة على مقاليد الأمور، بدأت تركيا تمهيد الطريق لرأب الصدع الدبلوماسي. وعلى ذلك فإن الحكومة التركية لم تستأنف المفاوضات مع إيران فقط، بل بدأت في إرسال رسائل تعاون لنظام الأسد، ما قد يشير إلى تنازل تركيا عن موقفها من الإطاحة الفورية بنظام الأسد. تركيز السياسة التركية المتعلقة بسوريا في الوقت الراهن على وحدة الأراضي السورية يفتح الباب أمام استمرار نظام الأسد والقضاء على التهديدات الإرهابية، مع الالتزام بمكافحة داعش وحزب العمال الكردستاني بفرعية في سوريا حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردي.
جاءت العملية التركية في أعقاب سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على مدينة منبج من داعش، وتحركه نحو مدينة جرابلس، فضلا عن هجوم داعش الأخير على مدينة غازي عنتاب على الحدود التركية السورية، الذي اسفر عن مقتل 50 مدنيا. وبهذا المعني فإن العملية التركية تطرح على أنها دفاع عن النفس ووضع خط أحمر ضمني لتطلعات الاتحاد الديمقراطي لتوسيع سيطرته على خط عفرين – كوباني.
وبالنظر إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي بدأ وفقا للتقارير في سحب القوات الكردية من منبج، فإن تركيا حققت أهدافها الأمنية في سوريا على المدى القصير. بمقدور تركيا الآن أن تعمل على إقامة منطقة آمنة (يطلق عليها دبلوماسيا منطقة خالية من داعش) على طول خط إعزاز – جرابلس، وضمان أن النزوح المحتمل من الرقة والموصل لن يضع عبئا ثقيلا آخر على مواردها.
الاندفاعة التركية الرقيقة تجاه إيران وروسيا إلى جانب رسائلها التصالحية لنظام الأسد (القبول بأن يبقى الأسد لفترة انتقالية) تهدف إلى تخفيف الضغوط على الأمن الداخلي التركي على المدى القصير، وفصل الأهداف الجيوستراتيجية الواسعة لسياستها في سوريا عن التدابير العاجلة إلى ضمان دور دائم لتركيا. لكن هذا لا يعني بالضرورة تقطع تحالف تركيا مع الولايات المتحدة في سوريا، وإنما يرمز إلى تحول واقعي يأخذ في الحسبان التوازنات على الأرض التي تجبر تركيا على السعي للتوافق مع الكتلة المعادية للغرب في سوريا.
العملية التي تقودها تركيا تجازف بخطرين كبيرين في أسوأ الحالات : الأول أن تركيا أحجمت عن أخذ المبادرة في الحرب العالمية ضد التنظيمات الجهادية، وهي الحرب التي استنفدت إرادة الولايات المتحدة ومواردها خلال العقد الماضي. ستكون تركيا الآن في الخطوط الأمامية لا ضد داعش فحسب، بل ضد غيرها من فروع تنظيم القاعدة مما ينذر بحرب لا نهاية لها على الإرهاب. الخطر الثاني أن العملية العسكرية التركية تمنح الاتحاد الديمقراطي والعمال الكردستاني فرصة للقبول ممثلا شرعيا على المسرح السوري العراقي. كان هذا في الواقع الدافع وراء عملية درع الفرات التي سعت مباشرة إلى التقليل من إمكانية إقامة ممر كردي في شمال سوريا . هذان الخطران يشيران إلى التحدي الذي ينتظر النظام الأمني التركي داخل تركيا وخارجها.
ما يجب أن يتبع في أفضل سيناريو هو جهد دبلوماسي كبير لجمع المصالح العالمية والإقليمية على طاولة المفاوضات في صيغى استمرار لعملية جنيف. في الوقت الراهن يبدو أن المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة على استعداد لتسوية مع نظام الأسد بأن يبقى في الحكم لمدة معينة مع جدول زمني واضح لعملية الانتقال السياسي. قد تذعن إيران وروسيا لتسوية تحقق مصالحهما اي استمرار نظام الأسد بوجوده شخصيا أو عدم وجوده. قد يظهر الهدف المشترك المتمثل في القضاء على داعش وخاصة في الرقة والموصل كأنه القاسم المشترك للانتقال السياسي الذي يجب أن يشمل المعارضة السورية والجماعات الكردية. تشير المحاولات الأخيرة لمراجعة السياسة الخارجية التركية إلى تهيئة الساحة للتوصل إلى اتفاق أوسع لتخفيف التداعيات الجانبية، ووضع حد للحرب الأهلية السورية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس