عمر كوش - العربي الجديد
تواجه الدولة التركية، منذ سنوات عديدة، قضايا ومشكلاتٍ عديدة، أهمها وأخطرها القضية الكردية، القديمة والمتجدّدة، وقضية أخرى، راهنة، هي جماعة (أو حركة) الداعية فتح الله غولن التي تدعوها الدولة التركية باسم "التنظيم الموازي"، وتعتبرها المسؤولة عن المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي، وتحاول الحكومة التركية اجتثاثها من مختلف مفاصل الدولة.
ويتناول الرئيس السابق لدائرة الاستخبارات التركية في إسطنبول، حنفي آوجي، هاتين القضيتين في كتابه (السيمونيون الذين يعيشون في القرن الذهبي، ترجمة وتقديم محمد زاهد جول، دار ابن حزم، بيروت، 2016)، وقد كتبه في صيغة مذكرات، يرويها عن أحداثٍ عايشها، وكان فاعلاً فيها، مع أنه بدأ حياته شرطياً بسيطاً، وانتهى من خدمته وقد أصبح مفكراً سياسياً، بعد أن شغل مناصب أمنية قيادية، وتولى مسؤولياتٍ كبيرة. وما يذكره من أحداثٍ كان طرفاً مباشراً ومشاركاً فيها، بوصفه شاهداً عليها، وعايش الفترة التي وقعت فيها، لكنه يعترف بنوعية أسلوبه الخاص في الكتابة، بحكم أنه ليس كاتباً، بل سارداً أحداثاً يذكر فيها أسماء المشاركين والمدن والبلدات التي وقعت فيها وتاريخها، من منطلق أن هدفه من كتابتها تحقيق ما لم يستطع تحقيقه وهو في مواقعه الرسمية، المتمثل في أن تكون بلاده وأمنها الوطني وشعبها في حالة أفضل وأقوى، وأكثر قدرةً على مواجهة التحديات التي تعترضها.
ولعل المقصود في عنوان الكتاب "السيمونيون الذين يسكنون القرن الذهبي في اسطنبول"، هم جماعةٌ من الناس الذين كانوا يسكنون منطقة خليج القرن الذهبي في اسطنبول، إبّان كانت المنطقة أشبه بمستنقعٍ تفوح منه الروائح، قبل أن يجفف، وكانوا مرتاحين فيها، على الرغم من الروائح الكريهة. والشخصية التي توصف بالسيمونية تنسب إلى شخصٍ اسمه "سيمون"، تكاد أن تكون قضية الكتاب تدور حولها، لتفَهُّمها أولاً، ورفضها ثانياً. والمقصود بـ"سيمون" شخص كان قاضياً في معسكر البقاع اللبناني، التابع لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وكان يبدو أنه مدافع قوي عن الحقوق بوصفه قاضياً. ولكن، عندما عرضت عليه قضية امرأه يعلم يقيناً أنها مظلومة، لم يستطع أو لم يقم بالدفاع عنها، لأن التنظيم الذي يخضع له يريد منه أن يحاكمها، ويقضي عليها بالإعدام، وقد فعل وهو يعلم أنها مظلومة، أي أنه خان ضميره طاعةً لأوامر الحزب، وحيثما يقال إن مصلحة الجماعة مقدمةٌ على الحق والعدل والإنصاف، فذلك دليلٌ على وجود شخصية سيمونية. ومهمة المؤلف كشف ضعف هذه الشخصية، ومن واجب كل مجتمع أو مؤسسة مدنية أو عسكرية، رسمية أو خاصة، أن تتخلص من السيمونيين الذين يعملون فيها.
ومن مذكّرات مسؤول الأمن الأسبق في إسطنبول، نكتشف حال الدولة التركية ومدى الفساد الذي تعاني منه، حيث يروي أحداثاً تثبت أن أجهزة الدولة نفسها، وبعض كبار المسؤولين فيها، هم من رعاة الفساد وممارسيه، وبتعبير آخر هم شركاء فيه، بينما يظهر أيضاً أن التنظيم السري لجماعة الداعية فتح الله غولن الذي يمارس دور الوصاية على الدولة والحكومات المنتخبة، كان يرعى ذلك الفساد، في سياق محاولته تشكيل "الدولة الموازية".
ويبدو أن حنفي آوجي أدرك، منذ توليه المناصب الإدارية في مراكز الأمن في البلدات الصغيرة، مدى الفساد المتفشي في القرى والبلدات والمدن التركية، وما كان غريباً أن تكون مراكز الأمن الشرطية نفسها متعاونةً مع بعض المتنفذين في نشره، بل والغريب أيضاً أن تكون الأحزاب السياسية تستغل مكانتها في الحكومة للاستفادة منه، بتعيين عناصرها في المناصب الحكومية ومؤسسات الدولة، غير أن أخطر أنواع الفساد هي أفعال التنظيمات الإرهابية التي كانت تقوم بأعمال إجرامية وعمليات تهريب وقتل، لأسباب سياسية، فقد كانت الشرطة خط المواجهة الأول مع هذه التنظيمات الإرهابية. وما أدرك حنفي نقصه في هذا المجال أن رجال الشرطة المسؤولين عن مواجهة التنظيمات الإرهابية لا يعرفون شيئاً عن هذه التنظيمات، من الناحيتين الفكرية والسياسية، لذلك يقول: "كنا فريقا لمقاومة الإرهاب. ولكن، لم نكن نعرف ما هي التنظيمات التي سنعمل لإيقافها. قامت الدولة بتعليمنا كل هذه السنوات، وأنفقت علينا المصاريف الكبيرة. ولكن، كيف لم تزوّدنا بالمعلومات الكافية. العنصر الذي يجعل الدولة قوية استخدامها القدرات الموجودة عندها بشكلٍ مناسب. المهم بالنسبة لي، أولاً: ليس الحصول على الأسلحة والموارد الجديدة والتكنولوجيا، الأهم هو تنشئتها أفرادها بشكل صحيح، ومن ثَم بناء النظام الصحيح، وتنظيم كل وحداتها ضمن بنيةٍ مؤسساتية. إن الدول التي لم تفهم هذا كما نحن، تبحث عن السبب في أماكن غير صحيحة دائماً".
وفي الجانب الآخر، هناك ظلم المافيا في تركيا، وكيف يستطيع أي عنصرٍ منها أن يقلب الحقائق، ويجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً، فلعصابات المافيا اليد الطولى في القيام بالجريمة التي تريدها، وإذا ما وقعت في خطأ في التنفيذ، وتم الإمساك بأحد عناصرها، تستخدم نفوذها في الشرطة والمحاكم، وتجعل المتهم بريئاً والبريء متهما، بالتهديد أو الشراء، حيث ترد في الكتاب وقائع عن قدرة المافيا في التأثير على القضاة في تركيا، وأن القضاة أكثر طاعة لهم من رجال الأمن أنفسهم، كما جاء في قصة "خلاص الضابط نامق".
وكانت القضية الأساسية التي شغلت مسؤول الأمن السابق، وهو في مناصبه العديدة، مكافحة التهريب والإرهاب، والتنظيم الإرهابي الذي كان يواجه الدولة التركية، هو تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، ونجده يشتكي من قلة المعلومات لدى رجال الأمن، بل وعناصر مكافحة الإرهاب، عن أفكار هذا الحزب وأهدافه والأيديولوجية التي يثقف عناصره بها، ويلقي باللائمة على السياسة الأمنية التي لا تزود العاملين في مكافحة التنظيم بالمعلومات الكافية لمواجهة مخاطر هذا التنظيم الإرهابي. وكانت الشكوى الأخرى هي عدم وجود أعين أمنية تتجسّس على عمليات عناصر هذا الحزب وتحركاته، في تهريب الأسلحة، ومخططاته لمهاجمة الدولة التركية. وكانت الشكوى أكثر من جهل عناصر الأمن باستخدام الأجهزة الإلكترونية الحديثة في التنصت، وتسجيل المكالمات الهاتفية، على الرغم من توفرها بكثرة في مخازن أجهزة الأمن، ولكن من دون فائدة.
وأخطر ما يشخّصه مسؤول الأمن من ضعف في أجهزة الأمن ومكافحة الإرهاب ادعاء الأجهزة الأمنية البطولات الكبيرة، وهي، في الواقع، نجاحات صغيرة، بينما يتم تبرير العجز عن مواجهة عناصر تنظيم (PKK) بأنها مدعومة من الخارج، ومن أوروبا وأميركا، فيما يقول هو: "إننا نبدأ بسرد حكايا البطولات عند نصر صغير على هذا التنظيم، لأننا نعتقد أن العالم كله يدعمه. ولكن، عندما نهزم نبدأ باختراع المبرّرات لهزيمتنا. إننا نرى هذا في حرب قبرص أيضاً، فعلى الرغم من أننا حاربنا مجموعة متمردة صغيرة، وأغرقنا سفينتنا عن طريق الخطأ، إلا أننا نصوّر الأمر على أنه نصر ضد دولة كبيرة، وأن الفهم ذاته موجود في أحداث كثيرة في التاريخ القريب. إن تقبّل الحقيقة وتقييم الحياة في ضوء العقل والعلم أمرٌ صعب بالنسبة لدولٍ كثيرة، إن الدول التي تقوم بهذا التقييم وتقوم بالنقد الذاتي تصل إلى النجاح دائماً، ولكن الدول التي تفعل عكس هذا وتظن بأنها محقة دائما محكومةٌ بالفشل".
على الرغم من أن آوجي رجل أمنٍ، تولى عدّة مناصب في مكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة، وعمل، بشكل دؤوب، على تطوير أجهزة الأمن لمكافحة الإرهاب وأنشطة الإجرام التي كان يقوم بها تنظيم (PKK)، إلا أنه كان يرى أن العنف ليس حلاً للمشكلة الكردية، وأن لعناصر حزب العمال الكردستاني قوة نفوذ في الأوساط الكردية الشعبية، وطالما أن العنف يزيد عناصر تنظيم (PKK) قوةً وإصراراً على محاربة الدولة التركية.
ولا يخفي آوجي رأيه أن مفتاح الحل الديمقراطي للمجتمع التركي هو في حل المشكلة الكردية الذي يتجسّد في إخراج عبدالله أوجلان، رئيس تنظيم PKK، من السجن، لأنه الوحيد الذي يمكنه أن ينهي العمل المسلح ويوقف التفجيرات، بل ويخرج المقاتلين من أعالي الجبال.
أما جماعة الداعية فتح الله غولن، فكانت البداية في تعرّف آوجي على "جماعة النور" (النورسية)، وهو في معهد الشرطة، حيث تعرّف عليهم من خلال المسجد الذي يصلي فيه، وتابع معرفته بهم من خلال الدروس التي كان يحضرها في بيوت الجماعة، حيث سكن في إحدى المرات في بيوت جماعة النور ستة أشهر. وفي تلك الفترة، التقى مع الشيخ فتح الله غولن في أحد بيوت الجماعة، والمقصود جماعة "الخدمة" التي هي أحد فروع جماعة النور وليس كلها، فغولن ليس شيخ جماعة النور بكاملها، وإنما هو أحد الشيوخ فيها، ويختلفون معه في أمور كثيرة، وهو شيخ جماعة الخدمة خصوصاً. والأرجح، حسب المترجم، أن لقاءه فتح الله غولن يعود إلى عام 1980، أي قبل 37 عاماً من محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016، الذي اتهم بالوقوف وراءه فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية.
ولا يخفي آوجي أنه ممن ساعدوا على دخول جماعة فتح الله غولن في مؤسسات الدولة الأمنية منذ وقت مبكر، من دون أن يعلم أنه كان يقدم العون إلى تشكيل تنظيم سري في أجهزة الدولة، أو أنهم كانوا يستغلون تعيينهم في هذه الأجهزة، لكي يوظفوا وجودهم فيها لصالح الجماعة، وشيخها فتح الله غولن، والأكثر بُعداً أن حنفي كان يعلم أنهم يستهدفون الدولة التركية بالعداء الداخلي، أو أنه كان يتوقع أنهم يتآمرون مع أعداء تركيا في الخارج لتدمير مسار النهضة التركية المعاصرة، ويعترف بأنه "عندما عُيّنت رئيسًا لدائرة الاستخبارات في المديرية العامة للأمن في أنقرة، حاولت أن أحمي العناصر الذين يتعرّضون لمحاولات إنهاء مهامهم بسبب عقائدهم الدينية، أو بسبب وضعهم الديني. غير أنهم أبعدوا كل من لا يرغبون به بسبب الدِّين، وعَيّنوا كل من يرونه مناسبًا لأفكارهم بمراكز مهمة. قبل هذه المرحلة، كان يتمّ تعيين العناصر من المثاليين القوميين، أي أن اليساريين والإسلاميين، وغيرهم من العناصر الراديكالية، يُبعَدون عن المواقع المهمة، إلا أنني لم أوافق أبدًا على التعيينات المتحيزة، وحاولت، قدر الإمكان، أن أعيق هذه التصرفات".
وفي نهاية المطاف، يتذكّر آوجي، وهو على رأس عمله في ذلك الوقت، كيف وصل سيف جماعة فتح الله غولن إلى الطعن به نفسه، من دون معرفته السبب، بعد أن قدم لهم المساعدات، وكان يظن أنه صديق لهم، فقد عرف، وتأكد أن هناك من يتنصت عليه، وأن كل هواتفه مراقبة، ما جعله يقدم شكاوى شخصية ومكتوبة إلى جهات عديدة، من وزارة الداخلية والعدلية ومدراء الأمن العام وغيرها، وقد وجدت شكواه في البداية تجاوباً وتعاطفاً من المسؤولين والوزراء الذين قابلهم، لكنه، وبعد أن كتب كل شكاواه من أجل التحقيق فيها، ومعرفة الجهات التي تقف وراء التنصت عليه، وجد تراجعاً رسمياً في متابعتها.
أخيراً، يسأل آوجي نفسه سؤالاً مهماً: لماذا يضع نفسه في الخطر، فالكتابة عن "جماعة فتح الله غولن" خطر كبير، بعد أن أصبح للجماعة نفوذ في كل مؤسسات الدولة، في الجيش وفي الشرطة، بل وفي وأجهزة الاستخبارات، وخصوصاً أنه أصدر الكتاب عام 2010، ويجيب: "يمكنني أن أعيش بسكوت، من دون أن أتدخّل في شيء. ويمكنني أن أتابع عملي في هذه المدينة الجميلة الهادئة، مع هذا المحيط الرائع، وفي منزلي الكبير وحديقته الواسعة، لكن هذا لا يتماشى مع مبادئي وعقائدي. لا يمكنني أن أخادع نفسي، إنني أخاف أن أكون إنسانًا بلا حراك تجاه خطرٍ يكبر يومًا بعد يوم".
ويختم مذكراته بالقول "هدفي من هذا الكتاب جعل الناس الذين أعرف أنهم صادقون، أن يتساءلوا: ما الذي نفعله؟ ما الذي يجري؟ أكثر ما يزعجني هنا هو تحويل هؤلاء الأشخاص إلى أناس بلا ضمير وبلا وفاء".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس