إبراهيم كالن - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
هناك بعض المشاكل المستحكمة التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع، وكأن العالم الإسلامي يدفع ثمن عواقب الفوضى العالمية بعد انهيار النظام العالمي ثنائي القطبية. ومن النادر أن ينقل "الشرق الأوسط"، كما يطلق عليها في التعبير الدارج، الشعور بالأمل والازدهار، لكن الاسم يستدعي إلى الذهن الصراع والحروب والأزمات والثروة المدللة. يمكن للمنطقة أن تتغلب على أزمتها الحالية بمواردها الطبيعية والبشرية الغنية. ويمكنها أن تصير من جديد أرض الثقافة والحضارة والسلام والرخاء، مثلما فعلت على مدى قرون قبل العصر الحديث. لكن هذا يتطلب خيالا اجتماعا جديدا، وسياسة توافق، وقيادة سياسية قوية.
هناك كثير من المشاكل الرئيسة تغذي الاضطراب الراهن في الشرق الأوسط. ثمة أربع قضايا من بين أمور أخرى تبرز بإلحاح:
أولا تمثل الدول الفاشلة والحكومات الضعيفة أرضا خصبة للجماعات الإرهابية العنيفة التي انهمك معظمها في العمل على "الدولة المجهرية" من أجل السلطة والهيمنة. وامتدادا من سوريا والعراق إلى اليمن وليبيا والصومال وحتى أفغانستان العاجزة عن فرض النظام والسلام، لم تخفق هذه الدول في حماية مواطنيها فقط، بل إنها تشكل تهديدات أمنية لجيرانها. كما أن من السهولة التلاعب بهذه الدول من قبل أصحاب المصالح من القوى العالمية على حساب التقاليد المحلية، والمؤسسات والسكان. تؤول معظم المساعدات الإنسانية المتجهة إلى المناطق التي تعاني من أزمة، إلى تعزيز الوضع المتدهور للدول الفاشلة والحكومات الضعيفة.
ثمة حاجة إلى تدابير مضادة لبناء مؤسسات دولة قوية، ورفع كفاءة الحكم الرشيد والمساءلة، والحكم على أساس الجدارة. يجب على الدول الإسلامية مساعدة بعضها بعضا في تطوير القدرات لترسيخ النظام وتوفير الخدمات. لا ينبغي التلاعب بالعوامل العرقية والطائفية والجغرافية لإضعاف الهياكل الحكومية الضعيفة بالفعل.
ثانيا، لدينا مشكلة الراديكالية والتطرف العنيف ممثلا في جماعات مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وحركة الشباب وغيرها. تستخدم هذه المنظمات الإرهابية الحجج الدينية لتبرير قضيتها، لكنها في جوهرها تصارع من أجل السلطة والهيمنة، وهي بهذا المعنى لا تختلف عن أي منظمة إرهابية علمانية أو قومية أو اشتراكية. الهدف الرئيس لهذه المنظمات الاستحواذ على السلطة بأي ثمن. وهذا يجب أن يكشف عن طبيعتهم الدنيوية المدمرة. يجب على المسلمين أصحاب الضمائر الخيرة رفض العقيدة المنحرفة لهذه المنظمات، والحيلولة دون إيمان الشباب بها. وهذا يتطلب عملا فكريا جادا من الدرجة الأولى، ويجب علينا من خلاله أن نستعيد التراث الفكري الإسلامي، ونظهر أهميته في القرن الحادي والعشرين.
تسمم الطائفية المتنامية في بعض مناطق النزاع العلاقات بين السنة والشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي. في دول مثل إيران والعراق وسوريا ولبنان والبحرين وباكستان تختلط الهويات الطائفية بالهويات العرقية والإقليمية والدولة القومية. وفي معظم الأحيان تُطرح الهويات الطائفية لإخفاء مصالح الدولة القومية، والتقاتل من أجل النفوذ والتوسع. وهذا المسار بالغ الخطورة، ولن يجلب سوى المزيد من عدم الثقة والكراهية بين السنة والشيعة.
يجب على العلماء والزعماء الدينيين والسياسيين والمجتمعات أن يروا أن الطائفية الهدامة قد جثمت على البلاد الإسلامية على مدى العقد الماضي، وأن عليهم اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقفها. ينبغي قبول الطائفتين السنية والشيعية جزءا من التراث الإسلامي الأكبر. وعلى حين أن الخلافات العقدية والفقهية ينبغي الاعتراف بها، فلا يجب التلاعب بهذه الخلافات لخلق الصراعات السياسية وخدمة مصالح الدولة الإقليمية. تتجاوز الهوية العليا للمسلمين السنة والشيعة على حد سواء،كل حدود الدولة القومية.
تقبع معظم الدول الإسلامية عن دول العالم المتقدم، على الرغم من الموارد الغنية التي تملكها. يشير المحللون إلى أن الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي هي الأقل أداء وفقا لمؤشر التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة. وحتى لو نحينا مؤشر التنمية البشرية جانبا، وقبلنا بمجموعة مختلفة من المعايير أكثر انسجاما مع الظروف الداخلية لمعظم الدول الإسلامية، فإن النتيجة لا تتغير. ينبغي معالجة الفجوة التنموية بين الدول الإسلامية وبقية دول العالم المتقدم بأسلوب جاد ومنهجي. ليس هذه المعلجة ضرورة سياسية فقط، ولكنها أيضا واجب ديني في ضوء حقيقة أن الإسلام بوصفه دينا يحث على الخير للبشرية، باعتبار ذلك قيمة أساسية في نظرة الإسلام للعالم والنظام الاجتماعي. لا يمكن للمسلمين أن يدّعوا أنهم مسلمون صالحون يطيعون الله وهم يعيشون في فقر مدقع وتلوث بيئي، وفي أماكن غير صحية، وفي صراع طائفي مدمر. إن إخفاق البشر لا يمكن تبريره بأنه قدر الله المحتوم. وهذا يتطلب أيضا تفكيرا دينيا فلسفيا جديدا عن وضع العالم ومكاننا فيه.
يجب على الدول الإسلامية أن تستثمر أكثر في التنمية البشرية والتعليم والعلوم والتكنولوجيا، لكن عليها أن تفعل ذلك بطريقة تحترم التراث وتحميه، وتبقى منفتحة على الإبداع والتأقلم والتجديد. أما التراث المريض، والتكرار الأعمى له، فلن يؤدي إلا إلى وفاة التراث. كما أن الإيمان بكل جديد وحديث بدون مبادئ وجذور فلن يؤدي إلا إلى الاغتراب الذاتي وأزمة للهوية. لدى التراث الفكري الإسلامي المصادر لتحقيق التوازن البناء بين التراث والاستمرارية بين التجديد من ناحية والتأقلم من ناحية أخرى. يمكننا أن نرسخ جذورنا في تراثنا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على أفق الانفتاح على العالم.
ليس تحقيق أي من هذه الأهداف مستحيلا، ولكنها تتطلب مخيلة اجتماعية ودينية جديدة، حيث نستعيد دورنا " أمة وسطا" ونحمل " أمانة" الله في العالم. إن وجود قيادة فكرية أصيلة وفاضلة هو أمر أساس لتجاوز الانقسامات الكاذبة للذات المعاصرة، وإثبات أن الحياة مليئة بالمعاني، وأن الهدف ممكن دون التخلي عن الحرية والأمن.
هناك حاجة إلى قيادة سياسية قوية وحكيمة لإنهاء الحروب والصراعات المدمرة للذات في الدول الإسلامية، وحمايتها من التدخل الخارجي، والتلاعب بها. يتعين على القادة السياسيين أن يدركوا أن سلامة بلد ما تعتمد على سلامة الآخرين. في عصر يتزايد فيه الاعتماد المتبادل لا أمن لأحد حتى يكون الجميع في أمان.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس