د. سمير صالحة - العربي الجديد
عادت العلاقات التركية العراقية التي وصلت إلى طريق مسدود، إبّان رئاستي أحمد داود أوغلو ونوري المالكي حكومتي بلديهما في أنقرة وبغداد، وانعطفت نحو مسار إيجابي، ثم سلبي في عهدي أوغلو وحيدر العبادي. ومن المفترض أن تكون زيارة رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، إلى بغداد، أخيراً، خطوة باتجاه تفعيل المسار الإيجابي هذه المرة، بعد سنوات من التوتر والتصعيد والتهديد المتبادل، بسبب ملفاتٍ ثنائية وإقليمية كثيرة، كان جديدها دخول قوات تركية إلى الأراضي العراقية، وتمركزها في معسكر بعشيقة القريب من الموصل ورفضها المغادرة.
التراشق الكلامي والتصعيد الدبلوماسي والسياسي بين أنقرة وبغداد إلى أي نتيجة. لذلك قرّرا تجربة الحوار المباشر الذي يأتي متأخراً جداً، على الرغم من معرفتهما أنه الفرصة الوحيدة التي قد تساهم في إزالة هذا التوتر والاحتقان بينهما.
تريد العاصمتان نسيان الماضي على ما يبدو، لكنهما تحتاجان إلى أكثر من لقاء وزيارة، فحجم التباعد يتجاوز مسألة مساعدة تركيا إقليم كردستان العراق في تصدير نفطه بشكل مستقل عن بغداد، واستقبال أنقرة نائب الرئيس العراقي السابق، طارق الهاشمي، وتحميل القيادات السياسية التركية نوري المالكي، رجل إيران، مسؤولية هذا التراجع في العلاقات.
مرد الانفتاح التركي على رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، أيضا اعتبار الأخير بعيداً عن مشروع النفوذ الإيراني، وأنه يمكن أن يكون شريكاً بالمقارنة مع سلفه المالكي الذي حاول قطع الطريق على الحوار والتقارب التركي العراقي، بإعلانه، قبل ساعاتٍ من وصول يلدريم إلى بغداد، أن مجموعات الحشد الشعبي والأحزاب والمليشيات المرتبطة بإيران جاهزة للتوجه إلى سورية للتنسيق مع نظام بشار الأسد والقتال هناك.
فتح صفحة جديدة من العلاقات بين أنقرة وبغداد مرتبط، من دون شك، برغبة السلطات السياسية في البلدين بهذا الانفتاح، لكنه مرتبط كذلك بمسار العلاقات بين بغداد وأربيل، وبوجود الرغبة الإيرانية والأميركية في عرقلته، وكذلك بارتدادات ملفات أمنية وسياسية إقليمية كثيرة.
وتعكس مواقف الطرفين، وكما نقلها البيان الختامي للزيارة والمؤتمر الصحافي المشترك، حقيقة أن لا تبدل كبيرا لناحية المطالب والشروط.
ما زالت تركيا ترفض دخول قوات "الحشد الشعبي" إلى منطقة تلعفر، وتطالب بغداد بطرد عناصر حزب العمال الكردستاني من منطقة سنجار الأيزيدية، شمال غربي الموصل. وهي تعهدت بسحب قواتها من الأراضي العراقية، تزامناً مع تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش.
وفي الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، يصل إلى مطار بغداد في زيارةٍ تهدف إلى إزالة جليد العلاقات، كانت مقاتلات سلاح الجو التركي تنفذ غارات جديدة على مواقع لحزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، شمال العراق، في رسالة تركية مهمة إلى بغداد.
ورسالة يلدريم الثانية إلى القيادات العراقية أن أنقرة لن تفرّط بعلاقاتها مع شريكها وحليفها الجديد، مسعود البرزاني، وأن التوجه إلى بغداد لن يعني التخلي عن زيارة أربيل، للتشاور في نتائج لقاءات بغداد، ولوضع خطط المرحلة المقبلة على ضوء ما تمت مناقشته والاتفاق عليه في العاصمة العراقية.
كما أن الاتفاق على طلب العراق سحب القوات التركية من بعشيقة شيء، وإعلان تركيا أنها ستسحب قواتها من بعشيقة عند حصولها على الضمانات التي تريدها شيء آخر. فقد كان وزير الخارجية، مولود جاووش أوغلو، يقول إن بلاده ستسحب قواتها من بعشيقة ما إن تنتهي عملية تحرير الموصل، وإن إرسال التعزيزات العسكرية إلى مناطق الحدود سيستمرّ، بهدف التحسّب لأيّ مفاجآت تتحمّل تركيا نتائجَها السلبية.
وكان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، يقول "نستطيع أن نهزم داعش بتوحيد قوانا، وبدعم من دول المنطقة". كما أن وزير الخارجية العراقي، إبراهيم الجعفري، دعا تركيا إلى التنسيق مباشرة مع بغداد، في معركة الموصل. ويبدو أن أنقرة ستفعل ما يقوله الجانب العراقي باتجاه فتح الطريق أمام خط التهدئة بين البلدين، وهو كلام إيجابي عراقي يتحدّث عن بروز خطة عسكرية لمحاصرة "داعش" في الموصل، والقضاء عليه هناك، ومنعِ انتقاله إلى سورية، وهذا ما دعت إليه تركيا منذ البداية، وأبدت استعدادَها للتعاون في اتّجاه تحقيقه.
ما زالت التحفظات التركية على بعض بنود خطة الموصل قائمة، وهذا ما نقله رئيس الوزراء التركي إلى العراقيين، وانعكس على مضمون البيان الختامي للزيارة، ومنها قلق أنقرة من احتمال الحرب المذهبية وتحذيرها من قيام حزام شيعي يخدم إيران في شمالي العراق وسورية، يضيق الخناق على تواصلها الجغرافي والعرقي مع المنطقتين، ويجعل من حزب العمال الكردستاني وشريكه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي حصان طروادة طهران في المكانين.
باتت الرسائل التركية شبه واضحة في الأشهر الأخيرة، سواء أكانت في طريقة التعامل مع الملف السوري أو العراقي، وهي التصدّي العلني لسياسة طهران في البلدين، لمنع محاولة إضعاف تركيا في الملفين، والرد على التصعيد الإيراني، في محاولة الإمساك بأوراق وملفات ساخنة عديدة في محيطها الإقليمي. تركيا المتسلحة بتحالفها الجديد مع روسيا، وبإعلانها الحرب على إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، التي تغادر، تحاول، منذ الآن، إقناع فريق عمل الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بأن ما تفعله واشنطن في سورية والعراق سيقود إلى إطاحة شراكة وتحالف تاريخي بينهما إرضاء لمجموعات محلية وسياسات ضيقة.
لم تنفع استراتيجيات التصعيد العراقي ضد تركيا، وخصوصا أن أنقرة قالت، منذ البداية، إنها لن تنسحب من بعشيقة، إلا إذا حصلت على الضمانات التي تريدها لما بعد معركة الموصل، ومعرفة تفاصيل المشهد السياسي والأمني العراقي وسيناريوهاته في المرحلة المقبلة لملء فراغ ما بعد "داعش" وموقع إيران ودروها المحتمل في العراق التي تريد أن يكون بأكمله من حصتها في إطار خريطة التمدّد الجغرافي والمذهبي نحو التوغل في الأراضي السورية في لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة.
وليست زيارة يلدريم أكثر من محاولة لإقناع بغداد بعدم الرهان أكثر من ذلك على إيران التي قادت عملية التصعيد السياسي والدبلوماسي العراقي، وتوج بتقديم شكوى ضدها في مجلس الأمن، بسبب وجودها العسكري في العراق. ثم هي رسالة أخرى إلى واشنطن نفسها التي أعلنت وقوفها إلى جانب أنقرة في حقها المشروع بالدفاع عن أمنها في شمالي العراق وسورية، لكنها قالت أيضا إنها تحترم رغبة بغداد في رفضها إشراك تركيا في معركة الموصل، وهي التي تعرف حجم ارتباط ما يجري بمخطط فتح الطريق أمام حزب العمال الكردستاني، ليتمدّد وينتشر في سنجار بذريعة حماية الأقلية الأيزيدية هناك.
وثمة احتمالٌ لا يمكن تجاهله، وهو أن يكون يلدريم قصد بغداد لإقناعها مجدّدا بفوائد إشراك القوات التركية والتنسيق العسكري معها في شمال العراق، بعد التحولات الأخيرة في سياساتها السورية والروسية والإسرائيلية وقرار الدخول في المواجهة المباشرة مع "داعش"، بهدف القضاء عليه، رغما عن واشنطن وطهران والنظام السوري. وقد تفاجئنا أنقرة بالمطالبة بمنطقة أمنية مؤقتة في شمال العراق، ريثما يزول الخطر على أمنها، تكون مشابهة لسورية. وقد تنسق مع بغداد وأربيل مباشرة في عمليات تحرير هذه المنطقة من التنظيمات الإرهابية، لتكون شريكاً مباشراً في عملية إنهاء الوجود العسكري لحزب العمال الكردستاني هناك أولاً، وتحول دون تقدم المشروع الأميركي المتعارض كلياً مع حساباتها، باتجاه توريطها أكثر فأكثر في المستنقعين، وتركها وسط حربٍ مفتوحة مع الجميع ثانياً.
هناك تحوّل واضح ورغبة مشتركة يبذلها الطرفان التركي والعراقي، من أجل تحسين العلاقات بينهما، انطلقت مع تفاقم خطورة "داعش" وحاجة تركيا إلى مراجعة سياستها مع جارها في الجنوب الشرقي.
اليوم وعلى الرغم من كل ما يقال، ترى أنقرة أن مصالحها محمية بشكل أفضل، في وجود عراق موحد ووجود سلطة عراقية مستقرة وقوية. ومراجعة عراقية – عراقية، تتضمن المصالحة الوطنية وخيار العيش المشترك، ستساهم أيضا في إزالة أسباب التوتر التركي العراقي وارتداداته.
كانت الأمور واضحة منذ البداية في أنّ التوتر التركي ـ العراقي حول معركة الموصل ضد تنظيم داعش هو، في الأساس، توتر تركي ـ إيراني وتركي ـ أميركي، بسبب شعور أنقرة بأنّ تحالفاً جديداً يُبنى على حسابها في العراق بين واشنطن وطهران، بعد الاتفاق على النووي الإيراني الذي أطلق يد القيادة الإيرانية في المنطقة.
كانت المسألة أبعد من أن تكون مسألة حماية سيادة العراق ووحدة أراضيه وحدوده الدولية المعترف بها. لذلك، تصلّبت تركيا في مواقفها، على الرغم من كلّ الضغوط الأميركية ضدها. لكن المواقف التركية والعراقية المعلنة، وعلى الرغم من مدلولاتها الإيجابية الكثيرة، تكاد توحي بأن تطبيق التفاهمات والتنسيق في الحرب على التنظيمات الإرهابية، وإنهاء وجود أي منظمات إرهابية تهدد الطرف الآخر على أراضيها، وقرار رفع مستوى التعاون التجاري والاقتصادي الذي تراجع من 12 مليار دولار إلى 7 مليارات في العام المنصرم، سيحتاج هذا كله حتماً فترة زمنية طويلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس