م. معين نعيم - خاص ترك برس
صدم العالم أجمع أو على الأقل العالم باستثناء القوى العالمية التي كانت على علم وبانتظار حدث الانقلاب الفاشل في تموز/ يوليو من العام الماضي بحجم العملية الانقلابية وجرأة المنفذين من حيث القصف المباشر على البرلمان التركي وقيادة الشرطة والشرطة الخاصة وحتى على المحتجين في الشارع التركي بمقاتلات أف16 والطائرات المروحية الهجومية ثم ازدادت الدهشة حتى وصلت حد التشكيك في حقيقة وقوف جماعة وصفت نفسها بأنها جماعة دينية خدمية وكان التشكيك مصدره صنفين من الناس وهما الاستخبارات العالمية التي لا شك أنها تعلم تفاصيل التفاصيل عن الجماعة وما تشكيكها إلا نكاية بأردوغان وحزبه وبتركيا التي تحاول التخلص من أصفاد التحكم الغربي بها وبمقدراتها كما كان يحدث منذ قرن من الزمان والصنف الآخر من المشككين فهم المتابعين العاديين الذين عرفوا بوجود جماعة جولن عبر الإعلام وعبر ما كتب عنها في السنوات الخمس الأخيرة والأهم في العامين الماضيين.
جماعة الدولة الموازية منظمة عسكرية التركيب...
لمعرفة حقيقة جماعة جولن يجب الاطلاع على تركيبتها الداخلية وطريقة عملها من حيث التنظيم وضوابط التعاون بين أفرادها ومجموعاتها وكذلك الأدوات المستخدمة لدى الجماعة في العمل وحماية نفسها من الاختراق أو الاجتثاث.
فجماعة جولن سميت بالدولة الموازية لأن لها في كل مؤسسة حكومية مسؤول عن عمل التنظيم في هذه المؤسسة ويسمى إمام فهناك على سبيل المثال إمام لموظفي بلدية إسطنبول وإمام لمديرية أمن إسطنبول و إمام للقضاء في أنقرة وهذا الإمام لا يشترط أن يكون من ضمن العاملين بل غالبا ليس من العاملين في هذه المؤسسة بل قد يكون موظفًا في القطاع الخاص أو مُدرّسًا في مدارس الجماعة فعلى سبيل المثال إمام القوات الجوية ومساعده كانا أستاذًا في كلية الشريعة ومدير عام في إحدى الشركات الموالية للجماعة.
والإمامة هنا بالنسبة للجماعة تعني الطاعة العمياء والقطعية له فلا يأتمر الموظف بأمر مديره بل بأمر إمام الجماعة فيمكن أن يسرب معلومات استأمنه عليها مديره ويتسبب في فصل أو محاكمة هذا المدير أو حتى الضرر بالمؤسسة أو الدولة نفسها فعلى سبيل المثال فقد تم التصنت على أجهزة كل قيادة الدولة من رئيس الوزراء أردوغان في حينه وعبد الله جول رئيس الجمهورية ورئيس الأركان وغيرهم من مستخدمي الأجهزة المشفرة والتي وفرتها لهم دائرة البرمجيات في مؤسسة الأبحاث الحكومية توبيتاك ولكن العجيب أن غالبية العاملين في هذه الدائرة تم اعتقالهم ليتبين أنهم شركاء في عملية التصنت لصالح الجماعة وتسريب التسجيلات وعدد منهم هرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا وحصل مباشرة على إقامة وتقدم بطلب اللجوء هناك ثم في أثناء الانقلاب يقوم مدير مكتب رئيس القوات البرية والمرافق الشخصي له باعتقاله وتوثيقه من يديه وأرجله ويلقيانه أرضا رغم أن أحدهما عمل لديه معه أكثر من 15 سنة ولكنه ورغم أنه عسكري أطاع أمر الجماعة دون أمر قائده العسكري ونفس الشيء حدث مع رئيس جهاز الدرك وكل هذه الأمور تم توثيقها عبر كاميرات المراقبة في المباني التي تمت فيها وعلى هذا فقس..
والتراتبية الإمامية في الجماعية ترتفع من الدوائر حتى المؤسسات ثم الوزارات ثم قيادة الدولة بإمام تركيا ويرتبط هذا الإمام بإمام الكون كما يسمونه في التنظيم وهو فتح الله جولن والذي حسب المفهوم الصوفي للجماعة هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يخاطب النبي المصطفى متى شاء ويستشيره ويقرر بناء على مشورته.
والتبعية في الجماعة للإمام الفرعي أو المركزي تبعية عسكرية غير قابلة للنقاش وأعلى من كل مسؤولية فمثلا ثبت بالتسجيلات المصورة كيف تقف قيادات عسكرية عليا سلام تعظيم لشخصيات مدنية مثل عادل أوكسوز إمام القوات الجوية والقائد الحقيقي للانقلاب ومساعده وكمال باطماز وكيف كانت قوات عسكرية تتحرك في شوارع تركيا لحظة الانقلاب بأوامر من مدنيين أو مدرسين بسطاء في الحياة العادية لكنهم أئمة تنظيميون في الدولة الموازية فالعنصر في هذه الجماعة لا يقرر في زواجه إلا بإذن من الجماعة بل كثيرا من الأحيان ما تقرر الجماعة للعنصر ممن يتزوج سواء كان شابًا أو فتاة وهذا للرد على موضوع طرحه تقرير المخابرات البريطانية الذي قالت فيه إن عناصر من الجماعة شاركوا في الانقلاب لكن هذا لا يؤكد مسؤولية التنظيم عن الانقلاب.. وهنا السؤال المشروع كيف لمن لا يستطيع التقرير في الزواج أو الوظيفة التي سيعمل فيها أو البيت الذي سينتقل إليه أن يقرر المشاركة في قيادة وتنفيذ انقلاب عسكري دون أوامر الجماعة؟
أما عن الأدوات فقد استخدم التنظيم كل الوسائل الأمنية التي تستخدمها التنظيمات العسكرية في التواصل والتنفيذ والحماية فلكل مسؤول في الجماعة اسم مستعار يتم التواصل به وهذا ثبت في التسجيلات الصوتية والأوراق المطبوعة التي وقعت تحت يد الدولة في العامين الماضيين بل وكان للتنظيم برنامج تواصل خاص باسم بايلوك وأثبتت الدراسات المستقلة أن البرنامج تم استخدامه فقط بإذن وشيفرة خاصة والتقرير الأمني حول البرنامج يقدر عدد المستخدمين بحوالي مئتين وخمسين ألف شخص وقد ثبت استخدامه من قبل مجموعات تنظيمية في الجماعة وهو برنامج تم كتابة برمجياته في كندا وكان إتمام البرنامج في تركيا عبر شركة برمجيات خاصة تملكها إحدى شركات الجماعة المعروفة.
ومن الأدلة على العمل الأمني للجماعة هو دليل تم الوصول إليه قبل يومين في مبنى كان مقرا لفتح الله جولن قبل عشرين عاما فقد تبين أن كل المنافذ الخاصة بالطابق الذي كان يقيم فيه فتح الله جولن مصفح حتى الجدران كانت تحتوي على طبقة مكونة من 15 مم من الحديد المصفح والمداخل والمخارج غير الواضحة تخرج من المبنى إلى مباني ملاصقة له كلها غير معروفة لعامة الناس.
ومع كل هذا فالميكافيلية لدى الجماعة كانت من السمات الواضحة فليس غريبًا على الجماعة أن يتم ضبط المادة غير المعالجة لتسجيل غير أخلاقي لرئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض الأسبق دنيز بايكال في مكتب أحد نواب رئيس إحدى الجامعات التابعة للجماعة محتفظ فيه في ملف مشفر رغم أن النشر للفيديو تم من خارج تركيا ونجحت مهمة التسجيل في إسقاط الرئيس السابق واستقدام الرئيس الحالي المعروف بعدم معاداته للتنظيم بل المدافع عنه رغم العداء الفكري الظاهر بين الحزب والجماعة.
التنظيم واختراق الدولة
استطاع التنظيم منذ تأسيسه في السبعينيات وباستخدام الطرق الأمنية والعسكرية المذكورة في الأعلى اختراق العديد من محافل الدولة وعلى رأسها أجهزة الشرطة والقضاء وبعض الدوائر البيروقراطية فيها ولكن هذا الاختراق والسيطرة تزايد وبشكل سريع جدا في الفترة من عام 1990 حيث تبين التحقيقات أن العديد من الضباط العسكريين والأمنيين من عناصر الجماعة تم إدخالهم لهذه المؤسسات عبر تسريب الامتحانات من قبل عناصر الجماعة لهم الأمر الذي كان يعرفه الكثيرون منذ سنوات وبهذه الطريقة أيضا تم تسريب الامتحانات الحكومية الخاصة بالوظائف وقد أثبتت التحقيقات الأمر وتم فصل المئات من الموظفين الذين ثبتت عليهم التهمة حتى قبل الانقلاب.
وفي الخارج فقد تبين بعد الانقلاب أن العديد من المحافل الرسمية التركية من سفارات وحتى قوات عسكرية دولية تم السيطرة عليها بشكل كبير من أتباع تنظيم الدولة الموازية فعلى سبيل المثال لا الحصر غالبية الضباط الأتراك في قوات الناتو أو أفغانستان المتواجدين خارج تركيا هربوا لألمانيا وتقدموا باللجوء السياسي بعد تبين علاقتهم بالتنظيم وحتى فعاليات اللوبي الخارجي لتركيا فقد صرح أحد القيادات التركية في الحكومة أن كل ما بنوه من منظومة لوبي خارجي خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا انهارت بعد الانقلاب بل تحولت لعمليات لوبي ضد تركيا لصالح الجماعة لسيطرة الجماعة عليها.
ومن الطرق المشهورة للجماعة هي سيطرة عناصرها على دوائر الموارد البشرية في المؤسسات الحكومية مما سهل عليهم استبدال من يريدون من الموظفين بالموظفين الموالين للجماعة وكان أشهر ما فضح من الأمر هو مواجهة بين الجماعة و أردوغان في شركة الاتصالات التركية حيث قامت الجماعة في العام 2009 بترقية العديد من الموظفين لمناصب أعلى بروتوكوليًا لكنها أقل أهمية في المؤسسة وبعد اكتشاف أجهزة التصنت في بيت ومكتب أردوغان في عام 2012 تم فتح الملف وارتفع مستوى التوتر بين الجماعة والدولة ولكن الجماعة وعبر خبراء في مؤسسة الأبحاث العلمية أصدرت تقريرا علميا مزورا تم تبرئة المتهمين من خلاله ولكن بعد الانقلاب تم الوصول للأدلة على التزوير.
علاقات التنظيم بالقوى العالمية
في العادة العلاقة بين التنظيمات الإسلامية والقوى العالمية الغربية المتمثلة بالأمريكان والأوروبيين علاقة عداء واضطهاد لكن الغريب في تنظيم الدولة الموازية أن الغرب والأمريكان منذ تسعينيات القرن الماضي وهم يقدمون الخدمات غير المحدودة له ولأنشطته وحتى حين هرب فتح الله جولن من اتهامه بمحاولة قلب نظام الحكم عام 1998 تم استقباله في الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي لتركيا العلمانية المتطرفة في حينها وعبر شهادات تزكية مشبوهة على رأسها شهادة تزكية من جراهام فولر - الرئيس السابق لقسم البحوث والتخطيط في وكالة الاستخبارات الأميركية CIA وكان مسؤولا عن العالم الإسلامي في فترة من فترات عمله - وبعض الشخصيات الأمنية الأمريكية تم إعطاؤه الهوية الخضراء Green Card، وقد قال عنه جراهام فولر في إحدى مقابلاته أنه يعتبر جماعة جولن هي الجماعة التي تشاركه نشر فكرته التي تعمل على ضرب الإسلام المتطرف بالإسلام المعتدل والتقارير الأمنية تقول إن للجماعة في أمريكا أموالًا تصل إلى حوالي مئتي مليار دولار ولم تمس حتى اللحظة رغم أن بضع ملايين لصالح فلسطين تسببت باعتقال العديد من العرب الأمريكان وسجنهم مدى الحياة وطرد العشرات منهم خارج أمريكا بعد سحب الجنسية الأمريكية منهم ومن عائلاتهم.
على الصعيد الآخر رأينا كيف تعاطت هذه الدول وخاصة اليونان، وألمانيا، وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية مع الانقلابيين فتم وبشكل فاق السرعة المتعارف عليها في هذه الدول بإتمام وقبول اللجوء السياسي لعدد كبير من العسكريين الذين ثبتت مشاركتهم الفعلية بطائراتهم في الانقلاب أو من المدنيين الذين ثبت انتماؤهم للتنظيم ومشاركتهم بجرائم أمنية أو مالية ضد الدولة بل وحتى تم تعيين عدد منهم في وظائف أكاديمية مرموقة وإعطاء بعضهم جوائز ترمز للحرية في ألمانيا رغم وجود اتفاقيات تسليم مجرمين بين هذه الدول وأمريكا لكن واضح أن هذه الأطراف لا تريد تسليم المجرمين لتركيا لعدة أسباب نتوقعها ومنها:
- رسالة لباقي عملائهم وخدمهم في العالم أن هذه الدول لن تتخلى عنهم حين حاجتهم لها.
- قناعتهم أن التنظيم الموازي ما زال يمكن أن يستخدم في ملفات أخرى ضد تركيا أو غيرها من البلاد التي ما زال للتنظيم تواجد فيه ورأينا كيف شارك عناصره في دعم الحملات الأوروبية ضد تركيا في المحافل الدولية.
- أخيرا خوفهم من تهديد الجماعة بفضح مشاركة هذه الدول في جرائم ضد تركيا لا تتحملها سياسة هذه البلاد ولا العلاقات الدولية لها مع تركيا بالقوة التي تتحمل مثل هذه الضربات.
أي في الخلاصة هذا التنظيم ببنيته الأمنية وتراتبيته العسكرية الشديدة وقدراته العالية الناتجة عما يملك من مقدرات الدولة في الداخل والخارج أو الدعم الكبير من دول أخرى وبعلاقاته الدولية الكبيرة والكبيرة جدا استطاع تشكيل منظومة داخل الدولة التركية وخارجها والسيطرة على مفاصل هامة في الدولة وشعوره بخطر القضاء عليه بعد محاولتي الانقلاب الفاشلتين في حزيران/ يونيو من عام 2013 عبر أحداث التقسيم والتي كان وواضحا للعيان دعم التنظيم وماكنته الإعلامية لها وشهر كانون الأول/ ديسمبر من نفس العام عبر محاولة الانقلاب الشرطي والقضائي والتي أوشكت أن تفضي لاعتقال أردوغان نفسه فكانت ردة الفعل بالانقلاب العسكري الفعلي وغير المتكامل نظرا لتعجل الأمر قبل مجلس الشورى العسكري التي كان الحديث يدور عن نيته إقالة العديد من الضباط المقربين من الجماعة والذين شارك عدد منهم بالفعل في الانقلاب.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس