ألبير غورموش - سربست ايت - ترجمة وتحرير نون بوست
بعد جهود حثيثة، استطاعت الجزيرة التركية من أن تمثل رمزا للإعلام المتوازن والأخلاقي في كل من الوسط الإعلامي التركي، وفي تركيا ككل. أساسا، تستحق الجزيرة التركية نسبة مشاهدة أكبر من التي حصلت عليها خلال تقديمها الخدمات الإخبارية. ولكن، لم يجذب الإعلام المتوازن والأخلاقي المشاهدين، وذلك لأن الأغلبية تفضل الصحافة "المعارِضة" والإعلام الموجه ضد الأعداء. وعلى الرغم من ذلك، تركت الجزيرة التركية بصمة واضحة في الإعلام التركي لا يمكن لأحد إنكارها. وبعد الخروج من الفوضى الإعلامية الحالية في تركيا، ستكون الطريق مفتوحة أمام من يريد السير على هذا المنوال.
سأنقل لكم تجربة عايشتها خلال أحد الدروس في إحدى المحاضرات التي ألقيتها لطلاب كلية الإعلام في جامعة "بيلغي" في مدينة إسطنبول سنة 2003. كان الدرس يتمحور حول مواضيع تتعلق بتحليل الأخبار وقراءة الصحف المُقارِنة. خلال ذلك الدرس، وقع تحت أيدينا خبر لصحيفة مركزية تركية يتحدث عن "انتشار سريع للشريعة في تركيا". بالطبع، ككل الأخبار الإعلامية المضللة الأخرى، كان من السهل علينا اكتشاف زيف ذلك الخبر. حتى أن جميع الطلاب داخل المحاضرة اقتنعوا بذلك حتى نهاية المحاضرة.
كنّا سننتقل إلى موضوع آخر بعد موضوع ذلك الخبر، حتى أوقفني أحد الطلاب، الذي عبر عن اقتناعه بزيف ذلك الخبر وتابع متسائلاً، "في النهاية، الصحيفة التي نشرت ذلك الخبر، تعتبر من أكثر الصحف التركية تأثيراً في الوسط الإعلامي، خاصة وأن لها قاعدة قرّاء واسعة، وبالتالي، سيصدق متابعوها ذلك الخبر. بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي هذا الخبر إلى نتائج إيجابية تواجه التخلّف والتراجع الثقافي داخل تركيا. ألا يمكن أن نقول أن نشر مثل هذا خبر في تلك الصحيفة له دور إيجابي ؟".
لم تُعجب إجابتي على هذا السؤال ذلك الطالب حين قلت له أن ذلك يتنافى مع قواعد النشاط الإعلامي. من الواضح أنه ظن أنني كنت أتحدث عن "التفاصيل التقنية" للأخبار عوضاً عن "حقيقة الخبر". ومن الواضح أيضا أنه انتظر مني أن أجيب بأن "هناك بالطبع جانب مفيد لنشر ذلك الخبر، خاصة وأنني ذكرت لهم نقاط الضعف التقنية المتعلقة بتفاصيل الخبر المنشور". ومن خلال وجهة نظر ذلك الطالب وتصرفه، تبين لي إمكانية جرّ الصحافة والإعلام إلى نقطة لا يعرف فيها مستخدموها حدوداً للأخلاق في العدائية واختلاف وجهات النظر.
وفي شأن ذي صلة، أفرزت الصحافة الموالية لنظام الحكم، التي ظهرت خلال سنة 2004 وأصبحت شائعة بعد سنة 2010، شريحة إعلامية معاكسة لها تماماً تعارض النظام الحاكم. وابتداء من سنة 2013 و2014، أصبح الإعلام يرتكب مخالفات وتجاوزات كثيرة وواضحة لدرجة أنه لم يعد أحد يهتم لانتقاد تلك التجاوزات.
وفيما يتعلق بذلك كتب أرطغرل أوزترك رسالة وجهها لي، من خلال تقرير صدر في صحيفة حرييت سنة 2014، طرح فيه جملة من التساؤلات أبرزه؛ "بعد مهاجمته لخبر نشرناه على صحيفتنا، ما هو رأي ألبير غورمش، المراقب الإعلامي، في الأخبار التي تصدرها الصحافة الموالية للحكومة ولتنظيم غولن معاً؟ وهل يستطيع أن يعبر عن رأيه في ذلك؟". حينها أجبته، "لا أوجه إليهم الانتقادات وهذا صحيح، لأنه لم يَعد من المهم انتقادهم، فلا يوجد شئ خفي لأكشف عنه، لأن كل شيء واضح وصريح".
وفي هذا الإطار، يجدر الإشارة إلى أن نظرة الحكومة المستمرة للإعلام بتقسيمه إلى "موالي" و"معارض"، جعلتني أفقد اهتمامي بتلك الانتقادات التي وجهتها لتلك النظرة الإعلامية. خلال تلك الفترة، ذكرتني دعوة مدير الجزيرة التركية، غوركان زينغين، للتحدث عن تلك القضية، وتعبيره عن سعيهم وراء إعلام متوازن وأخلاقي، بفكرتي التي عبرتُ عنها في مقال نشرته سابقا تحت عنوان "منتقد، معارض، عدو" والذي ناقشته مع زينغين، وبعث فيّ الأمل من جديد.
علاوة على ذلك، ذكر لي مدير الجزيرة التركية أنهم يسعون وراء إعلام منتَقِد فقط، لأنهم ليسوا بعساكر ليعتبروا الآخرين أعداء وليسوا بسياسيين ليروا الآخرين كمعارِضين. بعد ذلك اللقاء، طلب مني مدير الجزيرة التركية زينغين، تقديم ورشة عمل لمنسوبي الجزيرة التركية في إطار تطبيق أفكار ذلك المقال. وبناء على طلبه، قبلت ذلك التكليف بكل سرور. وهكذا بدأت العمل مع قناة الجزيرة التركية.
على مدى سنة ونصف عملت كمستشار للجزيرة التركية، ولو أني كنت مستشار للبث التلفزي أيضا، لكانت هذه المسألة نقطة فاصلة وعنصر فعّال في مسيرة الإعلام التركي. لذلك يجدر القول إن وجود مثال مادي على الإعلام الهادف والمتميز يشكل أداة لقياس مدى التميز والنجاح الذي حظيت به محطات الإعلام الأخرى، ويجعل للنقد هدفا وفائدة.
في تلك الفترة، عندما قمت بإجراء ورشة العمل، التي تحدثت عنها سابقاً، كانت الجزيرة التركية عبارة عن موقع إخباري على شبكة الإنترنت، وكان هدف إنشاء قناة بث تلفزي أمرا واضحاً حينها. لا أدري ما الذي حدث بعدها وجعل الإدارة تعدل عن رأيها في إنشاء قناة للبث التلفزي، لأنني كنت أعتبر تلك الخطوة أملا ونقطة تحول إيجابية في طريق الإعلام التركي المتميز.
في الأسبوع الماضي أيضا، اتُّخذ قرار بإغلاق الموقع الإخباري لقناة الجزيرة التركية، لكنني لا أظن أن ذلك يعود لأسباب اقتصادية كما قيل عنها. لذلك أعتقد أن السبب الرئيسي وراء ذلك يعود إلى تعرض المستثمر لضغوط معايير قناة الجزيرة الإنجليزية من جهة، وإلى العلاقات السياسية الجيدة بين قطر وتركيا من جهة أخرى.
ونتيجة لذلك، إذا كان المستثمر سيطبق معايير قناة الجزيرة الإنجليزية، التي لن يتخلى عنها في إعلامه داخل تركيا، فإن ذلك سيقود إلى إفساد العلاقات الودية القطرية مع الإدارة التركية. وفي حال أراد الحفاظ على علاقاته الودية مع تركيا من خلال إعلامه، سيؤدي ذلك إلى التنكر للمعايير الأساسية التي تقوم عليها قنواته الأخرى.
على الرغم من كل ذلك، لم يكن من الممكن التلاعب بمحتوى موقع اخباري يلعب دور عنصرٍ فعالٍ، ومقياساً للإعلام المتميز. لذلك، لو قمنا بتحليل محتوى ذلك الموقع الإخباري واستراتيجيته الإعلامية والطريق الإعلامي الأخلاقي، الذي اتبعه على مدى ثلاث سنوات ونصف من التقارير التقارير الإخبارية، لاكتشفنا الدور الذي سيلعبه البث التلفزي التابع له في إنشاء عنصر إعلامي فعال ومتميز في الوسط الإعلامي التركي، لو لم يتم إلغاؤه.
وفي مقاله الذي كتبه بمناسبة تصميم حُلّة جديدة لموقع الجزيرة التركية بعنوان "مبادئ الجزيرة التركية التي لا تتغير بتغير الواجهة"، قال غوركان زينغين إن كلا من "الخبر الحقيقي"، "والخبر الإنساني"، "والرأي والرأي الآخر"... من مبادئنا التي لم نتخلى عنها طيلة عامين ونصف، وسنكمل طريقنا على خطى تلك المبادئ. عملنا من أجل كسب ثقة متابعينا وأظن أننا نجحنا في ذلك".
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الجزيرة التركية قد نجحت في ذلك دون شك. أساسا، تستحق الجزيرة التركية نسبة مشاهدة أكبر من التي حصلت عليها خلال تقديمها الخدمات الإخبارية، ولكن، يبدو أن الإعلام المتوازن والأخلاقي لم يجذب المشاهدين، لأن أغلبهم يفضل الصحافة "المعارِضة" والإعلام الموجه ضد الأعداء.
وعلى الرغم من كل شيء، استطاعت الجزيرة التركية ترك بصمة واضحة في الإعلام التركي لا يمكن لأحد إنكارها. وبعد الخروج من الفوضى الإعلامية الحالية في تركيا، ستكون الطريق مفتوحة أمام من يريد السير على تلك الطريق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس