د. علي حسين باكير - تلفزيون سوريا
في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الماضي قراره سحب قوات بلاده الموجودة في سوريا. يعتقد كثيرون أنّ القرار سيفسح المجال أمام تركيا لملء الفراغ الذي سيتركه انسحاب هذه القوات، لكنّ تحقّق ذلك سيعتمد بالدرجة الأولى على الإجراءات التي ستتخذها السلطات الأميركية في المرحلة المقبلة وعلى مدى التعاون والتنسيق مع تركيا للوصول إلى النتيجة المرجوّة، وإلا فلا شيء مضمون إزاء من سيملأ الفراغ ومن سيسيطر على الأرض لاحقاً.
في مثل هذا الوضع، تسعى تركيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي: أولاً، عدم القبول بوجود مجموعات إرهابية على حدودها مع سوريا سواء تمثّلت ب"داعش" أو بالميليشيات الكرديّة المسلّحة أكان ذلك تحت مسمّى قوات (بي واي دي) أم (واي بي جي) أم أي اسم آخر. ثانياً، إعادة الوضع الديمغرافي في تلك المناطق إلى ما كان عليه سابقا قبل احتلال الميليشيات الكردية للعديد من المدن وتغيير واقعها الديمغرافي، وذلك بإعادة السكان الأصليين من اللاجئين العرب وغيرهم ممن هم موجودون على أراضيها. وثالثاً، عدم السماح مجدداً بامتداد كانتون للميليشيات الكردية على طول حدودها الجنوبية.
مثل هذه الأهداف ستصطدم بأجندات اللاعبين الآخرين على الساحة السورية. الميليشيات الكردية ستسعى للمحافظة على المكاسب التي تحصّلت عليها، وعلى سيطرة الأراضي التي حصلت عليها سابقا سواء بتنازلٍ من نظام الأسد أو بدعم أميركي، ولذلك فقد تلجأ إلى نظام بشّار مجدداً لعقد صفقة تتيح لها الحفاظ على امتيازات معيّنة مقابل الاتفاق على منع أي تقدم عسكري تركي باتجاه المناطق التي يسيطرون عليها.
النظام الإيراني يمتلك ما يؤهّله أيضاً لملء الفراغ سواء من خلال الميليشيات الشيعية الأجنبية والمحليّة أو من خلال قوات النظام السوري. تمتلك إيران أيضاً حوافز للسيطرة على هذه المناطق منها تأمين الطريق البرّي من العراق إلى سوريا وعبره إلى المتوسط، ومنها السيطرة على آبار النفط، وأخيراً تمكين نظام الأسد من بسط نفوذه على كامل الأراضي السورية. بالرغم من أنّ طهران وأنقرة وجدتا مساحة للتعاون في بعض الملفات الحسّاسة مؤخراً في الملف السوري، إلا أنّ الاختلاف بين أجندتهما كبير، ولا تزال إيران تنظر إلى تركيا على أنّها منافس لها في المنطقة، ولذلك هناك مصلحة إيرانية في نهاية المطاف في تحجيم النفوذ التركي في سوريا وفي تثبيت حكم الأسد من خلال بسط سيطرته على المناطق التي سينسحب منها الجانب الأميركي.
إبّان عملية غصن الزيتون، قامت إيران بتقديم مقترح إلى السلطات التركية يتضمن قيام نظام الأسد بالسيطرة على عفرين بدلاً من الميليشيات الكردية، وبذلك كانت طهران تحاول اللعب على المخاوف التركية من الميليشيات الكردية من جهة، والعمل على تمكين الأسد من السيطرة على المزيد من الأراضي والحد من النفوذ التركي من جهة أخرى، لكنّ أنقرة رفضت ذلك وقررت أخذ زمام المبادرة بيدها لا بيد عمر كما يقول المثل. هذا الأمر يؤكّد أن السلطات التركية لن تقبل أن يتولى أمن حدودها ميليشيات كردية أو أخرى تابعة لنظام الأسد حتى وإن تمّ ذلك بضمانات إيرانية. لكن ماذا عن الجانب الروسي؟
للجانب الروسي تحفظات كبيرة على أجندة تركيا في سوريا، لكنّه لطالما أبدى ليونة ولم يستخدم الفيتو بسبب حاجته إلى تركيا بالعملية السياسية في سوريا من جهة، ولإحداث شرخ متزايد في العلاقة بين أنقرة وواشنطن من جهة أخرى. مع انسحاب أميركا، ستختفي الورقة التي كانت كل من تركيا وإيران وروسيا تصوّب عليها لتجاوز خلافاتها البينيّة، وسيعود التركيز على الخلافات ليحتل الأولوية مرّة أخرى، وهو ما سيعطي الأفضلية لموسكو فيما يتعلق بتمكين الأسد من السيطرة على المزيد من المناطق وتذكير تركيا بأنّ عليها سحب قواتها بصفتها القوة الوحيدة الموجودة في الأراضي السورية دون إذن مسبق من نظام الأسد "وفق المنطق الروسي".
ورقة أخرى قد تلجأ إليها موسكو في مناكفة تركيا بعد أن تُخلي الولايات المتّحدة الساحة، وهي توظيف الميليشيات الكردية التي تركتها واشنطن. هذه الميليشيات تبحث الآن عن وسائل للحفاظ على المكاسب التي حصلت عليها، والحصول على ضمانات تمنع الجانب التركي من التقدّم عبر الحدود، ولذلك تبحث خياراتها مع متبنّين آخرين بما في ذلك نظام الأسد نفسه. سبق لروسيا أن قامت بدعم هذه الميليشيات وتبنيها سياسياً لاسيما عندما أسقطت أنقرة مقاتلة موسكو نهاية عام ٢٠١٥، كما افتتحت لها مكتباً تمثيلياً في موسكو.
قد لا يصل الابتزاز في المرحلة المقبلة إلى هذا الحد، لكنّ روسيا سبق لها أن اقترحت في مسودة الدستور التي حضّرتها لسوريا تفاصيل تدعم حكماً ذاتياً موسّعاً للأكراد في سوريا، وبإمكانها إعادة استخدام هذه الورقة في وجه أنقرة لتحقيق توزان في علاقتها مع مختلف الأطراف أو للضغط على الجانب التركي.
خلاصة القول، إنّه من المبكر القول انّ الانسحاب الأميركي هو انتصار لتركيا، فذلك سيقف عند حدود الترتيبات اللاحقة مع الجانب الأميركي وشكل التفاهمات التي ستتم أو ربما لا تتم بين كل من تركيا وروسيا وإيران. إذا لم يتم تنسيق الانسحاب الأميركي بشكل كامل مع تركيا، واذا لم تحصل أنقرة على دعم سياسي وعسكري من واشنطن بعد الانسحاب، فستكون خياراتها محدودة ومتأثرة بشكل كبير بمصالح كل من روسيا وإيران في سوريا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس