د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
المجازر التي ارتكبت قبل أيام في منطقة إدلب وعلى مسافة مئات الكيلومترات من الحدود التركية السورية عبر قصف مخيمات اللاجئين السوريين في بلدة قاح لا يمكن التعامل معها كحادث منفرد يقع في إطار استفزازات النظام وحلفائه الإيرانيين والروس التقليدية لتركيا والفصائل في محاولة لفتح الطريق أمام توسيع رقعة الانتشار العسكري والميداني هناك.
التصعيد في إدلب هو محاولة للضغط على تركيا باتجاه الإسراع في تنفيذ تفاهمات سوتشي أستانة في الشق المتعلق بحسم ملف النصرة ، لكن القصف والهجمات تتم أولا داخل مناطق تخفيض التوتر المشمولة بالتفاهمات الثنائية والثلاثية تحت سقف الأستانة وسوتشي.
والمستهدف ثانيا بهذه الوحشية المقصودة هم المدنيون الأبرياء في مخيماتهم عبر استخدام صواريخ عنقودية من السهل تحديد نوعيتها ومصدر انطلاقها وهذا ما كشفت عنه الكثير من التقارير الأمنية محملة النظام والإيرانيين المسؤولية الأولى المباشرة .
وهذا التصعيد لا يمكن فصله ثالثا عن محاولة إيران توجيه رسائل تهديدية لأنقرة بشكل مباشر أو عبر النظام بعد كثرة الحديث عن تفاهمات تركية أمريكية على إضعاف الدور والنفوذ الإيراني في سوريا ومحاصرة التمدد الإيراني في الشمال عبر فتح الطريق أمام انتشار عسكري تركي بالتنسيق مع الفصائل السورية وتسهيل عودة الآلاف من اللاجئين من أبناء هذه المناطق إلى أراضيهم .
للتذكير فقط وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو هو الذي أشار قبل أسابيع إلى وجود خطة أميركية " تهدف لمنع إقامة ممر إيراني في سوريا، سنرى ماذا ستفعل الولايات المتحدة "، وهو ما اعتبر في تركيا أيضا على أنه حلقة من التفاهمات التركية الأميركية التي ترجمت بشكل عملي عشية انطلاق عملية " نبع السلام " . اللافت هنا هو تراجع أرقام شراء الغاز الإيراني من قبل أنقرة في الأشهر الأخيرة مما فسر أيضا على أنه جزء من التفاهمات بين تركيا وأميركا بمعرفة روسية.
الاعتداءات الأخيرة تطال مباشرة خطة تركيا في موضوع اللجوء وتتركها أمام مسؤولية سياسية وإنسانية لا يمكن الهروب منها طالما أنها تدعو السوريين للعودة إلى أراضيهم وأن هذه العودة تتم داخل مناطق وجود القوات التركية والفصائل والجيش الوطني السوري . لذلك فالرد التركي لا مهرب منه.
حمل وزير الدفاع التركي خلوصي أكار قوات النظام في سوريا مسؤولية قتل المدنيين و قصف المدارس والمستشفيات والأسواق بشكل متعمد. لكن اللافت أيضا هو عودة الغارات الروسية في استهداف مناطق "خفض التصعيد" في محافظة إدلب بشكل مكثف.
ما ستقوله أنقرة لموسكو شبه معلن، إذا كانت هذه الاعتداءات ضد المدنيين تتم دون معرفة موسكو وبتنسيق مباشر بين النظام وطهران فلا بد أن ترد هي الأخرى عليها حتما لأنها تطال التفاهمات التركية الروسية في سوتشي والتفاهمات المعقودة في الشهر المنصرم بعد انطلاق العملية العسكرية التركية. الصمت أو التجاهل الروسي سيعني العكس بالنسبة لأنقرة وهو الذي سيدفعها للبحث عن بدائل وخيارات توقف هذه الهجمات وهي متنوعة وكثيرة وسبق اختبارها ميدانيا وعسكريا في شمال غرب سوريا ، خصوصا وأن البعض يتحدث عن إطلاق موسكو ليد إيران في مناطق شمال غرب سوريا بعد فشلها في قلب المعادلات هناك.
لا يمكن قبول حالة التناقض الواضح هذه. استمرار هذه الاعتداءات الوحشية ضد المدنيين في مخيمات اللجوء القريبة من الحدود التركية السورية في إدلب والإعلان في أنقرة عن بدء عودة السوريين الطوعية إلى ديارهم في تل أبيض وريف الرقة الشمالي ورأس العين. من الذي يضمن أن ما يفعله النظام في شمال غرب سوريا في مناطق "درع الفرات " و"غصن الزيتون " لن يكرره في مناطق " نبع السلام " ؟ ما يرتكب من جرائم هناك لا يختلف كثيرا عن الهجمات الإرهابية التي تنفذها مجموعات "قسد" في المناطق المحررة من وجود ونفوذ هذه المجموعات.
لن يستغرب أحد قيام المقاتلات الأميركية باستهداف مواقع جديدة للنظام وحلفائه الإيرانيين في شمال سوريا نفسها ردا على استهداف النازحين هناك خصوصا إذا ما تأخرت وترددت أنقرة في حسم الموقف ومنع تكراره وحيث سارعت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية لإدانة "الهجمات الوحشية التي قام بها نظام الأسد يوم الأربعاء على مخيم قاح للنازحين والذي يمثل انتهاكا للقانون الدولي ويقوض العملية السياسية المحددة في قرار مجلس الأمن رقم 2254" . وأن "هذا الحادث المروع يتبع نمطا موثقا جيدا من الهجمات الشرسة على المدنيين والبنية التحتية من قبل نظام الأسد، بدعم روسي وإيراني".
آثار الصاروخ الباليستي ما زالت موجودة في مخيم قاح والتقارير الأمنية تحمل النظام وإيران المسؤولية المباشرة عن هذه المجزرة . الوزير شاووش أوغلو يقول إن أميركا وروسيا لم تقوما بما يلزم بموجب الاتفاقات حول شمالي سوريا، مؤكداً أنه في حال عدم الحصول على نتيجة بخصوص انسحاب " قسد "، فإن تركيا ستقوم بما يلزم مجدداً. الرد التركي على مجازر إدلب الأخيرة ينبغي أن لا يقل عن أهمية التلويح بمواصلة عملية "نبع السلام ".
سارعت دمشق وطهران لاستخدام حق الرد على الهجمات الإسرائيلية الأخيرة ولكن باتجاه الشمال السوري والمناطق القريبة من الحدود التركية السورية . فتح الحدود لنقل الجرحى والمصابين مسؤولية إنسانية أخلاقية مهمة وهذا ما جرى لكن المسؤولية السياسية الأمنية هي التي ستناقش بعد الآن مع من قدم التعهدات وشارك في التفاهمات تحت سقف الأستانة وسوتشي.
قبل أيام اكتفت الخارجية الروسية بوصف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السوري بأنها تتعارض مع القانون الدولي وأن موسكو ستستفسر حول ظروف ما وقع. في موضوع مخيم قاح كان موقفها أدنى من ذلك بكثير . تجاهل ما جرى من قبل أنقرة والفصائل وتركه دون رد سيدفع النظام وطهران وموسكو لمواصلة سياسة الأرض المحروقة دون رادع.
قبل أسابيع كان الدبلوماسي الأميركي جيمس جيفري يردد أن بلاده وروسيا يختبران إمكانية فرص التعاون بينهما حول الملف السوري، وإنه إذا ما نجحت البداية في موضوع وقف إطلاق النار في إدلب، فستبدأ مرحلة اتخاذ القرارات الصعبة. القرارات الصعبة قد تعني مصيدة أمريكية روسية جديدة للأتراك إذا لم يتعاملوا سريعا مع اعتداءات وخروقات يومية تستهدفهم هم وحلفاءهم في سوريا.
تعقيدات المشهد في محافظة إدلب، لا بد أن تدفع أنقرة نحو الخيارات الصعبة كي لا تقع في مطب الخيارات الأصعب. قلناها أكثر من مرة وهي طبقت في " نبع السلام " لكن لحظة إدلب لا بد أن تكون اقتربت أيضا. وإلا فما هي مهمة أكبر كيان عسكري يضم نحو 100 ألف مقاتل تحت مسمى "الجبهة الوطنية للتحرير" بدعم من تركيا
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس