ترك برس
سلّط مقال للكاتب التركي المعروف، توران كشلاكجي، الضوء على تاريخ فنّ "الأرابيسك" وكيف انبثق عن تفاعل الموسيقى التركية-العربية، بأسلوب مؤثر شهد انتشارًا واسعًا في تركيا منذ أربعينيات القرن الماضي.
ويقول كشلاكجي، إن الموسيقى التركية كانت متأثرة بشكل كبير بالموسيقى العربية في أربعينيات القرن الماضي، حتى أن تركيا شهدت ولادة موسيقى جديدة، سميّت بـ"أرابيسك"، لأن هذا النمط الجديد من الموسيقى وحتى كلماتها كانت متشابهة تمامًا عند ترجمتها إلى اللغة العربية.
وأشار المقال الذي نشرته صحيفة القدس العربي، إلى أن هذا النمط الجديد من الموسيقى كان المعبر عن الألم والحزن، عن السعادة وعن الفرح والبهجة، النمط المؤثر في نفوس أولئك الذين هاجروا من الأناضول إلى إسطنبول، الذين تركوا البلدة باتجاه المدينة.
هذا النمط الجديد من الموسيقى، كان يتردد في الحافلات والمنازل والمحلات في إسطنبول. الموسيقى التي قدّمها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم في العالم العربي، سطع منها في تركيا نجم أورهان كنجباي، وفردي طيفور، ومسلم غورسيس، وإبراهيم تاتليسيس.
وتابع المقال: في السنوات الماضية، ألّف صديقي محمد برديبكْ، كتابًا حول تاريخ "الأرابيسك" الذي انبثق عن تفاعل الموسيقى التركية – العربية، تناول فيه قصص القطع الموسيقية التي تتردد على لسان الملايين. وأطلق على الكتاب اسم "ربما هذه الأغنية لا تفارق لساني" وهو بيت في أغنية "يكفي أن تكون سعيدًا" لإبراهيم تاتليسيس، ليسرد فيه بشكل مفصل وواسع قصة الأرابيسك غير المعروفة.
يتحدث برديبكْ في كتابه عن الموسيقى والسينما العربيتين في أربعينيات القرن الماضي وكيف كانت تزعج النخب الجديدة في تركيا، مؤكدًا أن هذه الأغنية ومثيلاتها من الأغاني والأفلام شكلت في الوقت نفسه بداية لحظر غريب وقصة مثيرة للاهتمام.
لم ترحب النخب الجديدة بهذه الموسيقى والأفلام العربية التي قيل إن اهتمام المواطنين باللغة التركية قد تراجع بسببها، ليبدأ على إثر ذلك فرض رقابة عليها في السينما باتخاذ إجراءات صارمة.
وهكذا، تم التوفيق بين الموسيقى العربية وكلمات الأغاني المستخدمة في الأفلام المصرية، واللغة التركية من خلال أسماء الموسيقيين الأتراك المشهورين مثل منير نور الدين سلجوق وسعد الدين قاينقْ، وبدأت فترة الأغاني "المتأقلمة".
انظروا كيف تتشابه النخب التركية، التي حاولت في الماضي أن تخضع المجتمع التركي للتغريب، باستخدام الأساليب القمعية، مع النخب العربية الحالية، التي تحاول تغيير العالم العربي بالأساليب المضحكة نفسها، أليس كذلك؟ مثل أولئك المساكين الذين قرروا حظر الأفلام والموسيقى التركية بذريعة منع التأثر بالأتراك. قصة النخب البائسة التي تحتقر ثقافتها، ولا تستطيع النظر في وجه شعبها، وتخاف من الديمقراطية، وتخجل من جذورها الشرقية.
التاريخ يكشف لنا بأن البائسين دائمًا ما يخسرون. ربما يمكنهم الصمود عبر أساليب الاضطهاد التي يمارسونها على شعوبهم لبعض الوقت من خلال الدعم الذي يتلقونه من الخارج، لكن النصر يكون في النهاية حليف الشعوب دائمًا. أمّا الشخصيات الديكتاتورية الظالمة، فإن الأمر انتهي بها إلى مزبلة التاريخ. لأنهم لا يفكرون على الإطلاق بمستقبل أبنائهم ولا شعوبهم.
افتحوا وانظروا إلى كتب التاريخ سترون، أن نهاية الظالمين هي نفسها دائمًا. وإذا لم يكن لديكم الوقت الكافي لقراءة الكتب التاريخية، انظروا إلى الكتب المقدسة. أين هم الفراعنة، والنماردِة، ومن هم على شاكلة أبو لهب…
شهدت فترة الأربعينيات وصول جهود بناء دولة جديدة وأمة جديدة وإنسان جديد إلى ذروتها. سيتم تجاهل كل ما ينتمي إلى الإمبراطورية العثمانية، وإظهارها على أنها السبب وراء تخلف الشرق، مع تجاهل جميع ممارسات الظلم والتدمير والنهب التي قام بها الإمبرياليون طوال 250 سنة.
كان ينبغي محو أي شيء خاص بالشرق، ويجب على الناس أن يكون تفكيرهم ولباسهم وقراءاتهم بما يتوافق تمامًا مع القيم الغربية فقط، بالإضافة إلى كل هذه الأمور، كانت الموسيقى من أهم انعكاسات هذا التغيير. في حين كان التطلع الأساسي هو نشوء نسخ جديدة من باخ وبيتهوفن وموزارت. لكن الأمور تطورت بشكل مختلف للغاية، ماذا كانت النية وماذا كان النصيب…
في فترة الثلاثينيات، بلغ القلق ذروته حيال إمكانية الكشف عن تصنيف بشري جديد خلال تلك الفترة. وكانت القيم والثقافة الغربية هي التي أحيت هذا الأمر. كان هناك كره لا يصدق تجاه الشرق، وخاصة العرب، لهذا السبب أي شيء عن الثقافة العربية كان يجب حظره، أو على الأقل تقييده. بالطبع، لم يكن الأمر كذلك. لأن الثقافة العربية، التي طُردت من الباب، استطاعت بطريقة ما الدخول من المدخنة.
والشيء نفسه يتم تطبيقه اليوم على الثقافة التركية/ العثمانية من قبل النخب العربية. وبما أن هذه النخب البائسة لا تقرأ تاريخ الشعوب، فإن نهايتها تكون النتيجة نفسها للأسف. في المحصلة النهائية، أصبحت أغاني فيروز وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب والشاب خالد وكاظم الساهر ولينا شماميان، تسمع في كل مكان، مثلما يتم الاستماع للأرابيسك في أزقة تركيا كلها.
نحن نعلم أن معظم هؤلاء الموسيقيين العرب تأثر بالموسيقى التركية. فقد صرح محمد عبد الوهاب في مقابلة سابقة معه، أنه استفاد من أعمال الموسيقار التركي الشهير جميل بك الطنبوري، مثل مقامات الشد عربان، والكورديلي حجاز كار، والنهاوند. هكذا هي الشعوب، تستفيد ثقافيًا من بعضها البعض. والمجتمعات الشرقية، بشكل خاص عاطفية للغاية. تبدو وكأنها تقبل الأمور السياسية والثقافية التي يفرضها الديكتاتوريون، ولكن إذا انفجرت، فإنها تمحو كل شيء أمامها، مثل التسونامي.
الأرابيسك الذي وضعت أسسه بين الثلاثينيات والستينيات، يعد في أحد جوانبه، ساحة مقاومة ضد التغريب والحداثة. وكان في هذا الصدد، انعكاسًا لأزمة هوية على الصعيد الثقافي والاجتماعي. ربما كان الأرابيسك ردة فعل شعب شرقي أراد بلده أن يكون غربيًا. بالطبع، لم يكن هذا التمييز يتكون بشكل مصطنع. لأن الناس كانوا يختارون دائمًا الشخص الأقرب إلى عالمهم العاطفي. هكذا كانت قصة الأرابيسك...
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!