ماجد عزام – العربي الجديد
بدا التقارب السعودي التركي مختلفاً، هذه المرّة، لجهة ترتيب الأولويات، والانطلاق من نقاط التوافق الكثيرة، وتأجيل نقاط الاختلاف القليلة أو تنظيمها، مع تشابه أو تطابق في فهم واقع المنطقة وتبدلاتها، وتحديد الأخطار المشتركة التي يواجهها البلدان والمنطقة.
نظرت الرياض بحذر إلى الانفتاح التركي على المنطقة في العقد الأخير، وتعاطت بحذر، أيضاً، مع تجربة حزب العدالة والتنمية، كونه حزباً محافظاً ذا قاعدة إسلامية. ولكن، في بلد ديموقراطي يعتمد تداول السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وازداد التوجس، أو القلق، السعودي، مع النظر إلى تركيا نموذجاً، أو على الأقل تجربة تستحق الاهتمام والمتابعة، والاستفادة منها في حل أزمات العالم العربي ومشكلاته. وتعمّق الحذر، أو التباين، بين البلدين مع اندلاع الثورات العربية التي دعمتها أنقرة بدون تحفظ، مع الدعوة إلى إشراك الأحزاب الإسلامية في الحياة السياسية، وإعطاء الحكم، أو الكلمة الفصل للشعوب في انتخابات حرّة ونزيهة، قائمة على توافق وطني، وفي أجواء بعيدة عن العنف. ونظرت الرياض، بخلفيتها المحافظة، إلى الثورات بتوجس، كونها هدمت الوضع الذي كان سائداً، وتعايشت معه جيداً حسب رؤاها ومصالحها، وازداد التوجس، مع وصول تيار الإسلام السياسي إلى السلطة، والتخوّف من طرح نموذج سياسي إسلامي ديموقراطي، قد يشمل المنطقة.
وعلى الرغم من التوافق في قضايا مركزية ومهمة، مثل سورية، وحتى العراق، وأخيراً اليمن؛ إلا أن الخلاف حول التبدلات والتحولات في مصر أثر، جوهرياً، على العلاقة، وأحدث تباعداً بين البلدين. وقد دعمت تركيا العملية السياسية والديموقراطية، وعلى الرغم من أخطاء، بل خطايا كبرى ارتكبها الإخوان المسلمون خلال عام حكمهم، دعمت أنقرة دائماً المسار الديموقراطي، ودعت إلى حل الخلافات، أو حسمها، بطريقة سلمية ديموقراطية ودستورية. أما السعودية التي نظرت إلى الثورات بقلق، وازداد قلقها بعد وصول الإخوان، المتعجل وغير المدروس، إلى السلطة، فدعمت، وبدون تحفظ، الانقلاب المدعوم شعبياً، والذي قاده الجنرال، عبد الفتاح السيسي، في 3 يوليو/تموز 2013، مع التأكيد على شرعية مطالب الموجة الثورية في 30 يونيو/حزيران، علماً بأن تعاطياً مختلفاً للرياض كان ليكفل الوصول إلى مخرج أو تسوية، وفق روح خريطة الطريق نفسها التي أعلنت في التاريخ نفسه، وتم انتهاكها نصاً وروحاً في ما بعد.
بعد الانقلاب، تبنت الرياض نظرية استئصال الإخوان وتيار الإسلام السياسي من المشهد الإقليمي، ودعمت الثورات المضادة في العالم العربي، وأعلنت الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وخطراً مركزياً في المنطقة عموماً. وقد تزامنت الانتكاسة في اليمن مع تدخل القدر بوفاة الملك عبد الله، ولم تستغرق القيادة السعودية الجديدة طويلاً لاستخلاص العبر، والقطع مع فكرة الإخوان خطراً استراتيجياً، بل على العكس اعتبارهم فصيلاً، أو تياراً سياسياً في المشهد الحزبي الإقليمي، واعتبار التوسع، أو التوغّل، الإيراني الخطر المركزي، إضافة إلى داعش طبعاً، مع نزوع أوباما إلى الانكفاء وعدم الممانعة في تسليم المنطقة للممانعين الجدد، على حساب المصالح العربية الإسلامية الأخرى.
تمركزت المنطلقات، أو القناعات، السعودية الجديدة، في الخطاب السياسي التركي، طوال الوقت. ولذلك، لم يكن مفاجئاً أن يكون الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أول الواصلين إلى المشاركة في جنازة الملك الراحل، ومن أوائل الزعماء الأجانب الذين زاروا الرياض بعد التغيير القيادي فيها، مع ترجيح أن تكون أنقرة من أوائل العواصم التي سيزورها الملك سلمان. وبحسب مصادر سعودية وتركية، جرى بناء العلاقة على أرضية أو قناعات مشتركة صلبة، وتم التوافق على تغليب، أو إعطاء الأولوية لنقاط التوافق، وهي كثيرة، وتأخير نقاط الخلاف أو تأجيلها، وهي قليلة، وتكاد تقتصر على الملف المصري، مع الانتباه طبعاً إلى مركزيته وأهميته، وتأثيراته على الملفات الأخرى.
وهكذا جرى التوافق على زيادة التعاون الاقتصادي والاستثمارات المشتركة بين البلدين، ويتم الحديث عن رصد الرياض 600 مليار دولار للاستثمار في تركيا، وحتى لو كان الرقم مبالغاً فيه، إلاّ أن الأهم هو إعطاء الضوء الأخضر لرجال الأعمال السعوديين للاستثمار في تركيا، ولتشجيع سوق الساحة السعودية على الانفتاح، مرة أخرى، تجاه اسطنبول وأزمير وأنطاليا، وذلك تحت سقف مجلس استراتيجي أعلى، سيتولى رسم السياسات، والإشراف على تنفيذها، بمشاركة فعلية وناشطة من القطاع الخاص.
لا يقتصر الأمر على الاقتصاد، فقد استقبل، في 12 أبريل/نيسان الجاري، وزير الدفاع السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مسؤول الصناعات الدفاعية في وزارة الدفاع التركية الذي قام بزيارة لافتة للرياض، لمناقشة تكثيف التعاون الأمني والعسكري، وصولاً إلى معاهدةٍ، أو اتفاق للتعاون الاستراتيجي، ستتضمن تبادل الخبرات والتدريب المشترك، وربما إمكانية نشر قوات مشتركة في أي من البلدين، كما جرى في اتفاقية مشابهة مع قطر. وسياسياً، تم ترتيب الأولويات، وفق المعطيات والقناعات سالفة الذكر، مع توافق واضح في اليمن والعراق وسورية وفلسطين، وحتى ليبيا، وخلاف أو تباين فقط تجاه مصر التي تم تأجيل ملفها. فقد جرى التوافق على دعم العملية الدستورية والسياسية في اليمن، أولوية سعودية راهنة، ورفض الانقلاب الحوثي، مع دعم واضح من أنقرة لـ"عاصفة الحزم" التي كانت آخر العلاج سياسياً، وحتى أمنياً ولوجستياً، ولكن من دون التدخل المباشر، أقله في المدى المنظور، مع موقف حاسم لتركيا بالدفاع عن أمن المملكة ضد أي تهديد خارجي. وفي سورية التي تعتبر أولوية تركية، التوافق حاصل وكبير، ويتضمن استبعاد بشار الأسد من أي حلّ سياسي، ودعم المعارضة المعتدلة، بمن في ذلك الإسلاميون طبعاً، لتغيير الموازين، كما لمنع بشار من الاستفادة من الحرب الأممية ضد "داعش"، مع تأييد سعودي لمطالب أنقرة بإقامة منطقة آمنة على الحدود المشتركة، كما منطقة حظر جوي، وانفتاح، أو توافق مبدئي، على التعاون الجدي، وتسريع الحل السياسي، وفق وثيقة جنيف نصاً وروحاً.
وتسعى أنقرة إلى جذب الرياض إلى الملف العراقي، لملء الفراغ، ومنع إيران من الهيمنة على البلد، أو تحويله جزءاً من امبراطوريتها، والبداية من معركة الموصل التي قامت أنقرة بالتحضير لها، بدعم قوات البشمركة وعشائر عربية بالسلاح والتدريب، بمساعدة نشطة من الأردن، واستبعاد مليشيا "الحشد الشعبي"، وحضور ما للحكومة العراقية من أجل دحر "داعش"، وإيجاد واقع سياسي جديد يكفل توافق القوى العراقية، بشكل ندّي ومتساوٍ، على قاعدة القطع مع الذهنية الطائفية التي اعتمدها نوري المالكي، وبالتأكيد، ملء الفراغ الحاصل ومنع إيران من الهيمنة على بغداد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بحجة محاربة "داعش". والتوافق حاضر كذلك في ملفي فلسطين وليبيا، لجهة تغليب الحلول السياسية التوافقية، ومنع الحلول العسكرية، أو الإقصائية والتعاطى مع الإخوان، والتيار الإسلامي عموماً، تياراً مهماً في الساحة السياسية، كبقية التيارات الوطنية القومية واليسارية الأخرى.
وتتمثل نقطة الخلاف المركزية في العلاقات التركية السعودية بمصر. ومع ذلك، جرى تنظيم الخلاف وتأجيله، مع إشارات واضحة من الرياض عن تصالح مع الإخوان المسلمين، ورعاية تسوية وطنية، تكفل الخروج من المأزق الداخلي الراهن، بأبعاده المختلفة، وانخراط مصر في التحالف الجديد بكل قوتها، وبدون تأتأة أو تردد، ليس في اليمن فقط، وإنما في العراق وسورية وفلسطين وليبيا أيضاً.
باختصار، نحن أمام تحالف عربي إسلامي جديد ومتنوع، عماده الرياض وأنقرة، سيضم دولاً وقوى عربية وإسلامية عديدة، وسيسعى، بكل ما أوتي من قوة، لملء الفراغ الذي تركه انكفاء أوباما البارد والقاسي واللئيم مع التعاطي مع إيران دولة جارة، نرتبط معها بعلاقات تاريخية ومصالح مشتركة. ولكن، من دون أن يعطيها ذلك الحق بالهيمنة على أربع عواصم عربية، أو تأسيس امبراطورية فارسية مع بغدادنا عاصمة لها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس