سمير صالحة - العربي الجديد
تعمل القيادة السياسية التركية، في هذه الآونة، على تذكير الجميع بتقديمها مسائل حماية أمن بلادها القومي ومصالحها الإقليمية في التعامل مع ملفات استراتيجية جديدة، داخلية وخارجية. وهي تتحرّك من هذا المنطلق لتحصين مواقعها، ولإعلان أنها لن تفاوض على ما هو مغاير لما تقوله وتريده في المسألتين. ورسائل من هذا النوع تعني الإدارة الأميركية حتما، لكن أنقرة تعرف أن التصعيد الأميركي أخيرا باتجاه أكثر من دولة يعنيها هي أيضا.
هناك ضجيج كثير بين البلدين، وقد يكون كلاهما يفضلان إبقاء الأمور على ما هي عليه، بانتظار أن تحسم الإدارة الأميركية خياراتها في التعامل مع ملفات إقليمية عديدة، لكن ذلك لا يمنع من قبول حقيقة انعدام وجود أي مؤشّر حقيقي على أن العلاقات التركية الأميركية تتقدّم نحو التهدئة وإزالة أسباب الخلاف والتباعد. والرئيس جو بايدن غير مقتنع بأن أنقرة ستتراجع عن مواقفها وسياستها الروسية والإيرانية، وعن التفاهمات التي بنتها مع الطرفين ثنائيا وإقليميا. فيما يرى الرئيس التركي، أردوغان، أنه وسط كل هذا الاصطفاف والتراشق اليومي لن تعطيه الإدارة الأميركية الجديدة ما يريده في سورية وموضوع قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وجماعة فتح الله غولن المحصنة في بنسلفانيا.
تقول أنقرة إنها جاهزة للتنسيق في تسوية مشابهة للتفاهمات مع اليونان بشأن نقل منظومة الصواريخ الروسية إلى جزيرة كريت، لكن واشنطن لا تقترب حتى من مناقشة خيار في هذا الاتجاه مع الأتراك. لا بل هي تردّد أنها تطبق مواد قانون "كاتسا" ضد خصومها، وتعتمده اليوم ضد تركيا التي تتمسك بهذه المنظومة. وهي رسالة لا تحتاج إلى نقاش وتفسير بشأن تعريف الصداقة والخصومة بعد الآن في العلاقة بين البلدين.
اشتعلت الجبهات التركية الأميركية مجدّدا لتطيح رسائل التفاؤل التي برزت في أعقاب الاتصال المطول بين الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، ومستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان. وتقرر الإدارة الأميركية الجديدة التواصل مع قيادات سياسية عديدة في العالم، وهي تفتح أبواب الحوار مع اللاعبين المؤثرين في هذه العواصم، عبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، لكنها ترجح تكليف سوليفان الاتصال بكالين لتمرير الرسائل. .. لغة تخاطب تركية أميركية لم نشهد مثلها في العقود الأربعة الأخيرة.
قواعد عسكرية غربية جديدة في اليونان، تسليح القوات اليونانية وتجهيزها لدور استراتيجي أكبر مرتبط بملفي الطاقة وشرق المتوسط، تحرك إقليمي لرئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، ورسائل تصعيدية ضد أنقرة من نيقوسيا وتل أبيب. عاد الداخل التركي إلى الحديث مطوّلا عن الدور الأميركي في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا عام 2016. هناك من يناقش أيضا احتمال أن تكون الولايات المتحدة تسعى إلى منح اليونان الدور والموقع الاستراتيجي الذي لعبته تركيا في علاقاتها مع الغرب منذ الخمسينيات. وتقول رموز الإدارة الأميركية الجديدة إنها ستذكّر تركيا بتعهداتها والتزاماتها نحو شركائها في الغرب. ما الذي تفعله أنقرة غير تذكير واشنطن بتمسّكها بلعب ورقة حليف محلي، امتدادي الفكر والممارسة لحزب العمال الكردستاني، تحت ذريعة محارية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وقد تتجنّب واشنطن التي تدرك حجم تركيا الإقليمي وموقعها، وترصد عن قرب منظومة العلاقات والتفاهمات التي بنتها في السنوات الأخيرة، الدخول في مواجهة علنية مع أنقرة، وقد لا تصعد مباشرة ضدها في المرحلة المقبلة، لكنها ستحاول ذلك من خلال حلفاء وشركاء ومتعاونين معها، أو عبر استهداف حلفاء تركيا وشركائها المحليين والإقليميين، في أكثر من مكان. وسينعكس ثمن مغامرة أميركية من هذا النوع حتما على أميركا، وعلى من يتطوع للعب هذا الدور ضد تركيا، فواشنطن تعرف، أكثر من غيرها، حجم التنسيق التركي الروسي الإيراني في المنطقة، وصعوبة تسجيل اختراق استراتيجي من هذا النوع بمثل هذه البساطة والسهولة.
تعوّل أنقرة على وساطات أوروبية بينها وبين واشنطن، باتجاه رفع العقوبات التي أقرها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على تركيا قبل مغادرته، وإعادتها إلى برنامج المقاتلة "إف – 35" الاستراتيجي البالغ الأهمية بالنسبة للأتراك. ولكن الرد الأميركي الأوروبي الصادم جاء من خلال بيان وزراء خارجيّة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، والذي يدعو إلى الرغبة في إنعاش العلاقات عبر الأطلسي، وحيث لم تكن تركيا أحد أبرز اللاعبين المؤثرين في التحالف بين المدعوين إلى الاجتماع.
تتضح يوما بعد آخر ملامح المواجهة التركية الأميركية، ذلك أن إدارة بايدن تحاول لعب أوراق توتر ثنائي وإقليمي بينها وبين أنقرة للمساومة على تجميد التقارب التركي الروسي والتركي الإيراني. لكن الواضح أيضا أن واشنطن قد تفضل تحسين علاقاتها مع الرياض وطهران والقاهرة والاستقواء بالأوراق الإسرائيلية الإقليمية على حساب إضاعة الوقت في سبل البحث عن فرص إعادة العلاقات إلى سابق عهدها مع أنقرة. احتواء بعض الأطراف وإبقاؤهم داخل الحضن الأميركي قد يكون أسهل من مغامرة البحث عن الجلوس مع تركيا في حضن الأخطبوط بأذرع روسية وصينية وإيرانية.
ما زالت الأنظار في تركيا مشدودة نحو البيت الأبيض تترقب بحذر شكل العلاقات بين البلدين في المرحلة المقبلة. الاتصال سيتم عاجلا أم آجلا بين الرئيسين، الأميركي والتركي، لكن كلا الرجلين ما زال يبحث عن السيناريو والمخرج الأنسب لإنجاز هذه الخطوة عن طريق المصادفة. وقد تكون قمة الأطلسي المرتقبة الفرصة الأقرب والأنسب لهذا التواصل، لكن لا أحد يعرف ما إذا ما كانت قادرة فعلا على إذابة كتل الجليد فوق المياه وتحتها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس