سعيد الحاج - الجزيرة نت
في الخامس من شباط/فبراير الجاري، أعلنت بعثة الأمم المتحدة لليبيا نتائج انتخابات ملتقى الحوار السياسي الليبي، بفوز القائمة الرابعة الممثلة بمحمد المنفي رئيساً للمجلس الرئاسي وعضوية كل من موسى الكوني وعبدالله حسين اللافي فيه، وعبد الحميد دبيبة رئيساً للوزراء.
وكانت البعثة الأممية قد اختارت 75 شخصية لملتقى الحوار السياسي، نتج عنها أربع قوائم متنافسة، قبل أن ينحصر التنافس بين القائمتين الثالثة بقيادة عقيلة صالح والرابعة بقيادة محمد المنفي على التوالي، حيث فازت الأخيرة بـ39 صوتاً مقابل 34 لمنافستها.
وبهذا تكون ليبيا قد دخلت مرحلة انتقالية يفترض أن تمهد لحل نهائي، حيث أن أولى مهمات الحكومة الجديدة هي التحضير للانتخابات في البلاد في الـ24 من كانون الأول/ديسمبر القادم.
القراءة
تأتي تركيا في مقدمة المواكبين لمسار الأزمة الليبية عن كثب والمهتمين بنتيجة الانتخابات بعدِّها إحدى الدول المنخرطة في الأزمة سياسياً وعسكرياً، وكذلك كونها الدولة الوحيدة تقريباً الداعمة لحكومة الوفاق الوطني بشكل واضح ومعلن في الفترة السابقة، مقابل عدد من الأطراف الدولية والإقليمية التي قدمت دعماً كبيراً، معلناً وغير معلن، للواء خليفة حفتر، خصوصاً وأن عدداً منها تصطف في محور إقليمي مناهض لها.
لا شك أن أنقرة، مثل باقي القوى الإقليمية المنخرطة، كانت تدرك أن الانتخابات لن تأتي بفريق متحالف معها كما كانت حكومة الوفاق الوطني السابقة بقيادة فائز السراج. بل إن السراج نفسه لم يكن حليفاً لأنقرة بالمعنى الحرفي الدقيق للكلمة، إذ لا يمكن مقارنة علاقته بها بعلاقة أذربيجان أو فصائل الشمال السوري بها مثلاً. ورغم ذلك، يمكن القول إن تركيا بشكل مبدئي أكثر من راضية عن مخرجات العملية الانتخابية.
فمن جهة، المجموعة المنتخبة للمجلس الرئاسي ورئاسة الوزراء ليست معروفة بالخصومة معها، والأهم أنها ليست محسوبة على أحد خصومها الإقليميين. وإنما هي عبارة عن مجموعة من التكنوقراط، دبلماسي ورجل أعمال وعضو مجلس رئاسي سابق وعضو برلمان سابق، لم ينخرطوا بشكل مباشر في الصراعات المسلحة والاستقطاب السياسي الشديد.
ومن جهة أخرى، فالبديل لرئاسة المجلس الرئاسي كان عقيلة صالح حليف حفتر وغطاءه السياسي، رغم أن قائمته ضمت فتحي باشآغا مرشحاً لرئاسة الحكومة، وهو المعروف بقربه من أنقرة وعلاقاته الطيبة معها، لدرجة تدخلها في خلافه مع السراج والتوسط لإعادته لوزارة الداخلية. كان قد أشيع سابقاً رغبة تركيا بفتح قناة تواصل مع عقيلة صالح بعد معركة كسر الحصار عن طرابلس وتقهقهر قوات حفتر عنها وعن الغرب الليبي عموماً، لكن ذلك – بفرض صحته – كان محكوماً بظروف تلك المرحلة ورغبتها في إضعاف حفتر وتغييبه إن أمكن في أي حلول مستقبلية، لكن هذا لا يعني أنها ترغب في أن تراه رئيساً للمجلس الرئاسي.
أكثر من ذلك، فقد خص رئيس الوزراء المنتخب عبد الحميد دبيبة وكالة الأناضول التركيةالتركية بأولى إطلالاته الإعلامية، مجرياً معها لقاءً حول توجهات حكومته المرتقبة وأولوياتها، في دلالة لا تخفى. كما أنه أرسل – خلال اللقاء نفسه – رسائل مهمة لتركيا التي وصفها بأنها “حليفة وصديقة وشقيقة، ومن الشركاء الحقيقيين لليبيا”، مشيراً للرغبة في استمرار التعاون معها ومتعهداً بالتضامن معها مستقبلاً.
كما أن اسم رئيس المجلس الرئاسي المنتخب، محمد المنفي، كان قد ارتبط بتركيا بشكل أو بآخر، حيث كان سفير حكومة الوفاق في أثينا، قبل أن تطرده الأخيرة احتجاجاً على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين حكومته وأنقرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
يضاف لكل ما سبق أن الانتخابات التي تمت، ووفق المؤشرات الأولى بقبول مختلف الأطراف بها، تؤسس لاستقرار أطول مدى في ليبيا، وهو أحد أهداف الانخراط التركي في الأزمة الليبية. كما لا ينبغي إغفال أن المسار السياسي هو ما سَعَتْ له أنقرة ومهّد له تدخلها العسكري إلى جانب حكومة الوفاق في معركة طرابلس وما بعدها، حيث انتفت بعد ذلك قدرة حفتر على تحقيق إنجاز عسكري بل مني بعدة هزائم، ما دفع الأطراف الإقليمية الداعمة له للبحث عن بدائل له من جهة وتعديل مواقفها بما في ذلك تفعيل المسار السياسي وتسريعه من جهة ثانية.
الانعكاسات
يفسر كل ما سبق أن تكون أنقرة في مقدمة من أيدوا نتائج العملية الانتخابية، ليس فقط ببيان من وزارة الداخلية، وإنما كذلك على لسان الرئيس اردوغان الذي اتصل كذلك على المنفي ودبيبة مهنئاً، إذ يبدو أنها مطئمنة إلى حد ما على مستقبل دورها في ليبيا.
ففي المقام الأول، لم تُحدِث الانتخابات الأخيرة تغييراً كبيراً في المشهد الليبي لا سياسياً ولا عسكرياً، وإنما هي بمثابة فترة انتقالية للإعداد للانتخابات المقبلة. والفترات الانتقالية من طبيعتها ألا تتضمن تغيرات جذرية أو تطورات راديكالية وإنما تحافظ على الوضع القائم قدر الإمكان، وبالتالي فالرهان الأساسي لمختلف الأطراف هو الانتخابات المقبلة وما سينتج عنها، خصوصاً إذا كان حلاً مستداماً.
ومما يعزز هذه الفكرة أن حدة الاستقطاب قد تراجعت مع عملية الانتخاب وصولاً لأن تتضمن القوائم شخصيات من تيارات مختلفة بل ومتواجهة. كما أن النتائج لم تأت بمجموعة محسوبة بالكامل على أحد الأطراف، ولا هي أدت لتزايد نفوذ دولة بعينها، وبالتالي ليس من المتوقع أن يطال الدور التركي – لا سيما عسكرياً- تغييرات كبيرة.
الأهم من ذلك أن تصريحات رئيس الوزراء المنتخب حملت ضمانات، وإن كانت غير مباشرة، بالحفاظ على العلاقات مع تركيا كما هي بل وربما تطويرها، وهو ما يشمل بداهةً التعاون العسكري والأمني معها. يعطي ذلك لتركيا – ضمناً – أماناً بخصوص اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهو الأهم لها بالنظر لتأثيره على أمن الطاقة والصراع في شرق المتوسط.
وكتصديق عملي لهذا التقدير، لم يمض أقل من أسبوع على الانتخابات حتى أعلن رئيس مجلس الأعمال التركي – الليبي (التابع للجنة العلاقات الاقتصادية الخارجية التركية) مرتضى قرنفيل عن بدء العمل بإنشاء مركز لوجستي في ليبيا، ليكون معبراً للصادرات التركية إلى القارة الإفريقية.
من جهة أخرى، ثمة تحديات كثيرة أمام المرحلة الانتقالية من بينها مدى التسليم للحكومة الجديدة وتيسير أعمالها وقبول مختلف الأطراف – لا سيما في الشرق – بها، وبالتالي ستظل الحكومة في حاجة لدور أنقرة ودعمها في مختلف المجالات، ولن تفرط فيه بسهولة. ولعل الأسابيع الثلاثة التي يفترض تشكيل ثم إقرار الحكومة خلالها ستكون فترة اختبار لمدى ثبات المسار الحالي وقدرته على الاستمرار ثم البناء عليه.
كما أن المواقف الإقليمية والدولية، في غالبيتها الساحقة، رحبت بمخرجات الانتخابات، وهو معطى مختلف تماماً عن المرحلة السابقة، بما قد يفتح الباب على تلاقي مختلف الأطراف في الملف الليبي بالحد الأدنى (وربما يتحول ذلك لتعاون في بعض التفاصيل) وبالتالي تخفيف حدة رفض الدور التركي من قبل بعض الأطراف الإقليمية. ولعل المتغيرات الواضحة في الموقف المصري من الأزمة الليبية مؤخراً، قبل الانتخابات الأخيرة حتى، مثال واضح على ذلك.
يضاف لكل ما سبق تصوّر تركيا لرغبة الولايات المتحدة باستمرار دورها في ليبيا من باب موازنة دور روسيا نسبياً، وهي التي تحاول تثبيت موطئ قدم لها في جنوب المتوسط يمنحها أفضلية في مواجهة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي. وبالتالي ستترقب أنقرة بالتأكيد ملامح الدور الأمريكي في الأزمة الليبية مع الإدارة الجديدة، لا سيما وأن انخراطها العسكرياً دعماً لحكومة الوفاق كان بموافقة ضمنية من واشنطن كما يبدو.
في الخلاصة، تبدو نتائج انتخابات المجلس الرئاسي الليبي أكثر من مُرْضية لتركيا، ولا تحمل أي مؤشرات على تغيرات سلبية بخصوص الاتفاقـَيْن الموقـَّعَيْن بينها وبين حكومة الوفاق الوطني (ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني والعسكري).بل لعلها تعوّل على مرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة بأن تحمل معها إمكانات تطوير مجالات التعاون مع طرابلس على المدى البعيد، بحيث تتحول ليبيا لشريك مهم لها في الشمال الإفريقي وبوابة نحو عمق القارة السمراء.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس