خلود الخميس – الأنباء الكويتية
يحل على الكويت رئيس جمهورية تركيا رجب طيب أردوغان في زيارة سياسية اقتصادية لتوطيد العلاقات بين البلدين.
وأظن أن الشعب الكويتي قد سبَق ومهد للتقارب مع تركيا، فمئات الألوف من الكويتيين حولوا بوصلتهم للاستجمام من دول أوروبا «التقليدية» إلى تركيا ويطلقون عليها «أوروبا المسلمين» وهي كذلك بالفعل، لأن جزءا من اسطنبول يقع في القارة الأوروبية.
لن نكرر الأغراض من الزيارة المعلنة عبر وسائل رئاسة الجمهورية والخبراء الاستراتيجيين والمحللين السياسيين والإعلاميين الأتراك، ولكن سأطرح بعض التحليل للتفكير التركي الحديث، وذلك استنتاجاً من لقاءات وصداقات شخصية مع مقربين من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء.
العقل الذي يدير تركيا اليوم ومنذ العام 2002، أي عند فوز حزب العدالة والتنمية بإدارة شؤون الدولة، يقوم على أسس الإدارة السياسية الأخلاقية، ويستمد قيمه من الإسلام «البراغماتي» ولو أننا استبدلنا كلمة البراغماتية بـ «يصلح لكل زمان ومكان» فسنتقبل ونتفهم فكرة أن السياسة متغيرة والمبادئ ثابتة، وأن الإسلام جاء بالقيم العامة للسياسة والأصول والخطوط العريضة لإدارة الدولة وترك للأمة التفاصيل على ألا تحيد عنها فـ «أنتم أعلم بأمور دنياكم» كما جاء في الحديث الشريف.
فهل أدّعي هنا أن تركيا تطرح فكرة الدولة الإسلامية؟
لا بالطبع، على الرغم من أنني أتمنى أن تفعل، ولكنها تطرح فكرة «الدولة الإنسانية» اللاتصنيفية، ومنهجها «ليحيا الإنسان حتى تحيا الدولة»، تسوس الشعب بدستور علماني يحميه الجيش والمحكمة الدستورية العليا، وتطبق القانون الوضعي، وتطرح التغيير التدريجي من خلال مُتاحات الواقع، وباستخدام وسيلة النظام العالمي للوصول للسلطة التي أسموها «ديمقراطية».
وبالرغم من ذلك لم تسلم تركيا من تكبر الاتحاد الأوروبي عليها ومنعها من عضويته فقط لأنها دولة ذات أغلبية ساحقة مسلمة ويديرها حزب محافظ «ملتزم شخصياً بقيم الإسلام»، وكذلك طالتها تحرشات مجلس «أمن الدول الخمس وغبن البقية»، ناهيك عن تحريض الامبريالية وإعلامها ضدها، وزُج بالفوضى الخلاقة في ميدان تقسيم بادعاءات واهية دفاعاً عن خمس شجرات أرادت الحكومة أن تقطعها لتعبيد الطريق لمشروع مدر للمليارات للدولة.
مع كل هذه الحرب القذرة، فريق العدالة والتنمية دفن في صناديق الاقتراع للحكومة وللرئاسة من أراد باختيار الشعب وإرادته واستقلالها سوء.
إذن ما الذي يجعلني أؤيد هذا الفريق وأظن به خيرا للأمة وأرى فيه شوكة من أهم شوكات الإسلام وهو يعمل بدستور علماني؟!
الإجابة أن فريق الإدارة السياسية ذو منهج إسلامي في التفكير، ويعمل على تطبيق الشريعة من دون صراعات المواجهة المكلفة لأمن واستقرار الشعب ومدخرات الدولة، وهنا يأتي الفرق.
عبر البرلمان التركي المنتخب، قُنن شرب وبيع الخمور، وجُرِّم الإجهاض إلا لضرورة طبية، ومنع الاختلاط في السكن (لبعض الجامعات) بين الطلبة والطالبات، وعادت المحجبة لمقاعد الدراسة من الابتدائية وحتى الدراسات العليا، وسُمح للمحجبة بدخول البرلمان كنائبة، وصار من حق المحجبة العمل في المرافق الحكومية بحجابها بلا اضطرار لنزعه، وعملت وزيرة الشؤون الاجتماعية والأسرة فاطمة شاهين بالعمل مع فريقها على اقتراح وإقرار وتطبيق قوانين كثيرة تحمي حقوق المرأة التي تُحرم من الإجازات ولا يراعى جنسها في القوانين التي تظلمها بالمساواة مع الرجل.
كل هذا تم عبر تطويع الدستور العلماني، والبقية ستأتي، فمن يقدر على ترويض مقارِب في سبيل إحلال الإسلام برفق في المجتمعات العلمانية الرافضة له والمتخوفة منه بسبب سوء تمثيل البعض له، فنحن معه ونشد على يده، كذلك فعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في مجتمع الجاهلية، لا شيء تم قطعاً بل تدرجاً، وقضى أول ثلاثة عشر عاماً يكرس العقيدة في مكة لأنها جذر شجرة التشريع، من لا يؤمن لا يطبق، ومن لا يحب لا يتّبع.
لقد غيّر فريق العدالة والتنمية أنفسهم ليكونوا قدوة ونموذجا لتغيير المجتمع والذي تناولته الآية الكريمة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وبالفعل تغير المجتمع فاختارهم طوعاً ورغبة وبالتراضي، وطبقاً لشروط طرحها الشرع مثل الأمانة والقوة وإتقان العمل والنزاهة.
الصفات السابقة تمثلوها ولم يتشدقوا بها، تركوا أعمالهم تنطق بها، وصناديق الاقتراع تدوّي هتافاً لهم، وهذا تماماً ما نتحدث عنه، تجربة تركيا في الإدارة السياسية والاقتصادية الأخلاقية، هي الحل لكثير من أزمات التداول السلمي للسلطة، التي بين الربيع العربي دمويتها.
حزب العدالة والتنمية اتخذ منهج «الثورة الصامتة» كما أعلن أردوغان في إحدى كلماته في ابريل 2014، وهي التوازن الذي حققته إدارته بين السياستين الداخلية والخارجية، فصارت لتركيا هيبة وكلمة مسموعة في المجتمع الدولي، وهي وسيط مقترح بين العديد من المتنازعين في قضايا ودول كثيرة لأنها تلغي أي طرح يسبب الفرقة والخلاف وتدخل طرفاً محايداً.
كما حققت بثورتها تلك التنمية للبلاد وانتفع العباد، ورُفع مستوى الدخول وسُدد الدين الخارجي كاملاً حتى صار الانضمام للاتحاد الأوروبي ليس من أولويات ما يفوق السبعين بالمائة من الشعب التركي بل يرونها عبئاً على الاقتصاد التركي، وارتفع الخط البياني للرفاه الاجتماعي.
هي ثورة صامتة بالفعل وكم من صوت مدوٍ ليس إلا نتاج سقوط هائل.
الثورة الصامتة كانت بتسليم إدارة الدولة لرجال يأخذون من الإسلام ديناً في أقوالهم وأفعالهم، وهذا شيء يختلف عن إعلان دولة إسلامية بلا مسلمين وبمرتزقة مستأجرين لتكثير سواد المجرمين!
الفرق شاسع بين من يعمل وقدوته محمد صلى الله عليه وسلم ومن يعمل وهو لا يقرأ القرآن ويشكك في السنة ويجهل التاريخ ويضيع في الجغرافيا ويعمل في سبيل الدينار.
وقد يتساءل البعض: كيف أقول هذا وتركيا عرابة الطرق الصوفية ومحضن لشيوخها وتنتشر فيها البدع البعيدة عن سنة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم؟!
نعم هذا جزء منه صحيح، بل جزء لا بأس به، ولكن لنعود للتاريخ: الدولة العثمانية والتصوف الإسلامي رديفان، ولنتذكر منذ مائة عام أوقف أتاتورك باسم التمدن والعلمانية، الأذان باللغة العربية والتعامل بها والحديث بها ودرْسها، فاستمر الشعب المسلم ما يفوق التسعين بالمائة منه يأخذ الإسلام التراثي على حساب العقدي، وهذه أزمة كل الدول التي ينتشر فيها التصوف الإسلامي. ثم إننا لم ننشط كعرب في الدعوة لله والعقيدة الصافية، الكثير من الأتراك يحفظون القرآن ولا يفقهون منه إلا قليلا، لنتخيل نحن العرب كيف سيكون حالنا مع فهم الدين لو كان بالأوردو، ولكن هذا لا يلغي مسؤولية «العدالة والتنمية» عن تعليم الدين الإسلامي الصحيح في المدارس، وقد بدأته إلزامياً لأول ثلاثة فصول في المدارس الحكومية فقد كان ممنوعاً منذ أتاتورك، تخيلوا؟! وأعادت فتح مدارس الأئمة والخطباء، وأردوغان خريج إحداها.
أما نحن العرب فنتحمل جزءا من المسؤولية لجهل أي مسلم من الأعاجم غير الناطقين بالعربية في دينه، لتقاعسنا عن توصيل الدين الصحيح له فـ «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم» كما جاء في الحديث الشريف، وإن كان ضعيفاً فهو يؤخذ به في فضائل الأعمال، وهل هناك أفضل من الدعوة إلى الله تعالى؟!
ولنتذكر أسباب إعراضنا عن الأتراك، لقد أخذتنا العزة بالإثم من مد يد العون لإخوة الدين بسبب «سايكس-بيكو» وما سبقها وتبعها وأحاط بها، وتأثرنا بمسلسل مثل «إخوة التراب» وجعلناه حقيقة تحول بيننا وبين الترك، تلك البقعة البعيدة التي تحكمها، مثلنا، عائلة بالوراثة كنا نسميها في المناهج «الاحتلال العثماني» وأظننا مازالنا نفعل، الشعوب التي تتخذ معلوماتها وتبني مواقفها على «الدراما» لا تستحق أن تنتقد ويكون لها رأي يُحترم.
القيادة بالقيم والمبادئ هي قيادة بالإسلام، لا فرق سوى أن عداء العلمانية التركية للمصطلح أدى إلى عدم استخدامه، فاختار فريق العدالة والتنمية فعله، ولا ننسى كم رأس لفت عليه حبال المشتقة وكم سُجن كُثر من السياسيين بسبب جهرهم بكلمة الإسلام, فجاء وذهب ولم ينفع أمته بشيء سوى عدم المرونة التي أثبت ساسة تركيا السابقون بدمائهم أنها لا تصلح للإدارة السياسية في تركيا الأتاتوركية، آنذاك، حد الغثيان.
ما أعرفه في فكر القيادة التركية أن حقوق الإنسان وحقن دماء المسلمين في سورية واليمن والعراق تشغلهم وذلك يتضح من البرامج الإغاثية بمليارات الدولارات، ولكن إذا جئنا لقضية فلسطين، فهي تطغى، العقيدة وجهتها إلى بيت المقدس وهذا أمر لا يخفى على متابع للسياسة التركية الواضحة المعالم وتتضح خطوطها في كتاب الفكر الاستراتيجي للدكتور أحمد داود أوغلو رئيس وزرائها.
رحلات «الطيب» وفريقه الذي لا ينام إلى الشرق، جزء من ذاك الفكر الاستراتيجي، ومنذ الخطاب الشهير لأردوغان بعنوان «one minute» في دافوس وشعوب المنطقة تتطلع إليه، وزاد الاهتمام الإعلامي العربي بالديبلوماسية التركية ومازال يترقب.
هل بات واضحاً كيف تفكر العقلية التي تدير تركيا الحديثة؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس