د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
ليس الهدف من التموضع الإقليمي الجديد في السياسة الخارجية التركية العودة إلى حالة "تصفير المشاكل" لأن الأمور خرجت عن المسار المعلن والمحدد لها قبل أكثر من عقد مع منظر الملف أحمد داود أوغلو، ولأن المسألة باتت أكثر صعوبة نتيجة الكثير من التعقيدات والتشابكات الإقليمية السياسية والأمنية والمواجهات المباشرة وغير المباشرة بين تركيا والعديد من دول المنطقة في الأعوام الأخيرة.
الاحتمال الأقرب والممكن في هذه الظروف بالنسبة لأنقرة هو الخروج بهدوء وواقعية وعملية من المرحلة الانتقالية وتجاوز عقبات وعوائق "الاستكشاف" والاختبار الجديد للعلاقات كما تقول العديد من القراءات العربية.
لجأت أنقرة إلى الإعلان عن سياسة انفتاحية تصالحية مع دول المنطقة وهذا لا بد أن يشمل الجميع ودون استثناء لأن الاصطفافات والتوازنات القائمة في العامين الأخيرين والتي بنيت على أساس التوحد ضدها في أكثر من منطقة تتطلب ذلك. إبقاء العلاقات متوترة وساخنة مع الرياض وأبو ظبي وتل أبيب مثلا لن يسهل إنجاز الرغبة التركية في المصالحة مع القاهرة. ثم عدم الجلوس أمام طاولة مفاوضات حقيقية مع القيادة المصرية حول ملفات توتر إقليمية كثيرة يتقدمها الوضع في سوريا وليبيا والعراق ولبنان وأفريقيا وشرق المتوسط لن يبدد حالة انعدام الثقة والهواجس القائمة بين الطرفين.
هل يشمل هذا التحول الملف السوري أم لا؟
تريد القاهرة كما تقول أن ترى تحولا ملموسا في السياسات التركية وبينها الملف السوري غير التصريحات والرسائل الانفتاحية "إذا لم تكن الأحاديث والتصريحات متفقةً مع السياسات على الأرض فهي ستكون بلا قيمة". وتطالب مصر بتعديلات جذرية في سياسات تركيا الحالية في سوريا والعراق وليبيا لأنها "تنبئ بتحوّلات مزعزعة للاستقرار في المنطقة". فهل تعطيها أنقرة ما تريده؟
المؤشرات والمعطيات الكثيرة تقول إنه لا مهرب من تنازلات متبادلة بين أنقرة والقاهرة في الملف السوري رغم معرفة كلا الطرفين استحالة تحقيق إنجاز سريع وكبير هناك بسبب وجود أكثر من لاعب إقليمي على خط الملف. كما أن هناك حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها وهي استحالة تحقيق اختراق تركي مصري في سوريا بهذه السهولة والسرعة لأن تداخل الملفات والمصالح يحول دون ذلك ولأن ترتيب الأولويات لن يبدأ حتما من الملف السوري.
هناك أيضا عقبات كثيرة تحول دون إعطاء أنقرة القاهرة ما تريده في الملف السوري لأن مصر ما زالت في قلب الاصطفافات الإقليمية التي تجمع اليونان وفرنسا وإسرائيل والإمارات، وهي دول ما زالت تتبنّى سياسات معاكسة لما تقوله وتريده تركيا في سوريا. هذا إلى جانب أن مصر هي التي قادت خطط تفعيل دور الجامعة العربية وبياناتها الانتقادية الأخيرة لتركيا في سياستها السورية من خلال مواقف علنية رسمية لم تحدث حتى الأمس القريب. وهناك كذلك موضوع الوجود العسكري التركي في العديد من الدول العربية بينها العراق وليبيا وسوريا وقطر ولبنان. كيف تنسحب تركيا من هذه الملفات دون انجلاء المشهد وتحديد خارطة مصالحها هناك؟
نظرة خاطفة على ساحة المواجهة التركية المصرية في سوريا تعكس حجم التباعد القائم في التعامل مع الملف وصعوبة فرص التفاهم والتنسيق الباكر والسريع في الملف لأكثر من سبب ثنائي وإقليمي.
تعتبر تركيا أن عملياتها العسكرية في شمالي سوريا أفشلت خطط "الإدارة الذاتية" بتوسيع رقعة السيطرة على الجغرافيا الحدودية في شرق الفرات وتقدم المشروع الانفصالي وساهمت في حماية وحدة سوريا ومحاولات تغيير شكل البنية السياسية والدستورية فيها. لكنها تقول أيضا إن السلة المصرية في سوريا جمعت التناقضات ووحدت النظام ومنصة القاهرة ووحدات حماية الشعب الكردية في سلة واحدة في مشروع لم يخدم يوما حل الأزمة السورية. وإن القاهرة تجاهلت أسباب اندلاع الثورة السورية وتعاملت معها بمعيارين المعيار المصري الداعم لإزاحة حكم مبارك والمعيار المصري المعارض لإزاحة الأسد والرافض لحق السوريين في الانتفاض على نظام يعانون منذ سنوات من ممارساته وسياساته، هذا إلى جانب لعب ورقة قسد وصالح مسلم حتى النهاية في مواجهة السياسة التركية في سوريا.
بالمقابل تقول تقديرات الموقف المصرية إن "القاهرة قادت تحركًا بالتنسيق مع دول عربية منها الأردن والسعودية، ودول أخرى منها قبرص اليونانية واليونان لتحجيم التحرك التركي وعدم تمدده داخل سوريا". الحقيقة هي أن القاهرة ساهمت في ولادة أكثر من بيان قمة عربية يرفض السياسة التركية في سوريا و"يدين العدوان التركي"، ويطالب بانسحاب تركيا الفوري وغير المشروط من جميع الأراضي السورية، وفتحت الطريق أمام القمم الثلاثية المصرية اليونانية والقبرصية اليونانية التي عبرت أكثر من مرة عن "قلقها العميق من العمليات العسكرية غير القانونية وغير المشروعة التي شنتها تركيا في الأراضي السورية". ومصر هي التي طالبت مجلس الأمن قبل عامين تقريبا بالتحرك لوقف العمليات العسكرية التركية في شمالي سوريا لأنها تهدد الأمن والسلم الدوليين، وتهدف إلى "إجراء هندسة ديمغرافية لتعديل التركيبة السكانية في شمالي سوريا". فأين وكيف ستتم التوافقات؟
في المشهد السوري تحديدا هناك اصطفاف مصري عربي واضح ضد المصالح التركية وسياستها في التعامل مع الملف. لذلك العقبة الأولى الواجب تجاوزها في التحرك التركي هي محاولة إقناع القاهرة بأهمية التنسيق الثنائي المشترك وفوائده لسوريا وللبلدين، وأنه بمقدور القاهرة التي سجلت خطوات انفتاح وتقارب مع دمشق ولاعبين سوريين محليين كثر أن تأخذ مكانها في طاولة حوار رباعي تشمل تركيا وروسيا وإيران لأن الغطاء العربي السياسي المقدم للقاهرة يطالبها ويساعدها على لعب هذا الدور. الوجود المصري أمام طاولة من هذا النوع قد يساعد على تسريع الحل في سوريا من خلال عودة الدائرة العربية عبر القاهرة إلى المشهد.
لكن بالمقابل هناك عملية التوازنات الإقليمية الجديدة التي تتشكل في المنطقة بعد وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة. دون حسم المواقف التركية المصرية حيال المتوقع من الإدارة الأميركية الجديدة ونتائج لقاء القمة بين الرئيسين التركي والأميركي في بروكسل الشهر المقبل على هامش اجتماعات الأطلسي لن تحسم خارطة التعامل أو التنسيق التركي المصري مع العديد من الملفات وفي مقدمتها الملف السوري. ثم هناك حقيقة أن مسار العلاقات التركية العربية وسط لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة وتحديدا في الملف السوري ستكون تحت تأثير الحوار الأميركي والسعودي مع إيران واحتمالات لقاء أميركي روسي مرتقب تصر عليه واشنطن هذه المرة فيما تتمسك موسكو بتحفظاتها واعتراضها على الذهاب إلى طاولة حوار تتخوف من نتائجها. التوتر التركي المصري في سوريا هو نتيجة اصطدام إقليمي في مسار العلاقات قبل أن يكون بسبب القراءات والمواقف المتباعدة حيال المشهد السياسي هناك، لذلك ودون تحسن واضح في العلاقات التركية مع السعودية والإمارات لن تحسم القاهرة ملف مصالحتها السورية مع أنقرة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس