ترك برس
احتلت تركيا الصدارة على جدول أعمال مؤسسات السياسة والإعلام في دول البلقان، خلال الزيارات التي أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو إلى المنطقة.
وأجرى أردوغان زيارة رسمية على رأس وفد مرافق، شملت البوسنة والهرسك ثم الجبل الأسود، أعقبتها زيارة أجراها تشاوش أوغلو إلى صربيا، حيث عقد لقاءات شملت العلاقات الثنائية في المجالين التجاري والسياسي.
والمثير للاهتمام أن تصريحات ميلوراد دوديك، رئيس جمهورية صرب البوسنة، ذات الحكم الذاتي في البوسنة والهرسك، لفتت الانتباه إلى ما هو أبعد من قضايا التعاون الثنائي مع تركيا، مثل جهود التطعيم وأعمال تطوير البنية التحتية، ودعم مرحلة العضوية في الاتحاد الأوروبي، وزيادة حجم التبادل التجاري.
وخلال الأيام الماضية، التقى الرئيس أردوغان في العاصمة البوسنية سراييفو، رئيس المجلس الرئاسي للبوسنة والهرسك زيليكو كومشيتش (كرواتي)، وأعضاء المجلس شفيق كافيروفيتش (بوشناقي)، وميلوراد دوديك (صربي).
وقال دوديك في حديثه خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع الرئيس التركي بعد لقاء سراييفو، إن الدول الغربية وبالتحديد دول الاتحاد الأوروبي، لا تفعل شيئًا لمد يد العون للبوسنة والهرسك، وإن بلاده تثق بالجهود التي يبذلها الرئيس أردوغان من أجل مستقبل البوسنة.
وأردف زعيم صرب البوسنة أن عدم سعي الغرب لتقديم الدعم اللازم من أجل النهوض بالبوسنة هي حقيقة كثيرًا ما يرددها قادة البلقان والسياسيون وعامة الناس.
وبالفعل، تمكن زعيم صرب البوسنة من التعبير عن امتعاض بلاده على المستويين الرسمي والشعبي، من السياسات الغربية تجاه بلاده، وهنا لا بد لنا من الإجابة على هذا السؤال المهم. لماذا تثق دول البلقان في تركيا؟
** لماذا تثق دول البلقان في تركيا؟
في السنوات الأخيرة، حدثت تغيرات مثيرة للاهتمام في السياسة الأوروبية، تشعر دول البلقان باليأس حيث ستترك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل السياسة وبالتالي أوروبا اعتبارًا من سبتمبر/ أيلول الجاري، فيما تقترب فرنسا من موعد الانتخابات العامة، في ظل تصاعد ملحوظ لليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية.
وتظهر دراسات "يوروباروميتر"، وهي سلسلة من الدراسات الاستقصائية، تجري بانتظام من قبل المفوضية الأوروبية، أن الانطواء في السياسة الأوروبية يساهم في زيادة نسبة المناهضة للهجرة ويقوض أيضًا سياسة توسيع الاتحاد.
ولفتت الدراسات التي أجرتها المفوضية الأوروبية عام 2018، أن 45 بالمئة من مواطني الاتحاد الأوروبي يعارضون سياسة توسع الاتحاد، وأن هذه الأرقام والنسب مرشحة للارتفاع عندما يتم تحليل البلدان بشكل فردي.
وعلى سبيل المثال، فإن استطلاع نشرته المفوضية عام 2019، أظهر معارضة 57 بالمئة من المواطنين الألمان لسياسة توسع الحلف، بينما يصل هذا المعدل إلى 58 بالمئة في فرنسا و60 بالمئة في هولندا.، ويمكن الاعتقاد أن هذه الأرقام ستزداد مع تغير المناخ السياسي في أوروبا.
لقد أكد الاتحاد الأوروبي رؤيته لمنطقة البلقان كجزء من أوروبا في قمة سالونيك عام 2003، ووعد بأن تشمل عملية التوسيع دول البلقان، لكن الاتحاد المنهك فضّل مؤخّرًا ترك رؤيته تجاه البلقان في ظل استمرار حالة الغموض التي تعتري المناخ السياسي الأوروبي. ووفقًا لذلك، تزداد خيبة الأمل في دول البلقان بعد تراجع الأوروبيين عن وعودهم مع زيادة نسبة معارضي توسيع الاتحاد.
وعلى سبيل المثال، قال رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، الذي سئم من استخدام فرنسا والدنمارك وهولندا حق النقض ضد عملية انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي، في تصريح سابق أدلى به لوكالة الأنباء الفرنسية، إن "ألبانيا لن تقف على أبواب أوروبا وتصرخ من أجل فتح تلك الأبواب".
وبالمثل، قال الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، إن بلاده لم تتلق أي مساعدة من الاتحاد الأوروبي خلال مرحلة جائحة كورونا، ما يتناقض مع مبدأ "التضامن الأوروبي" واصفًا التضامن المذكور بـ "القصة الخيالية".
وبالنظر إلى استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات رسمية أوروبية، فقد أظهرت أن تزايد شكوك الأوساط الرسمية والشعبية في دول البلقان بالسياسات الأوروبية تزامن مع تصاعد الاهتمام التركي المتزايد بهذه المنطقة.
وعلى سبيل المثال، تزايدت الثقة المتبادلة في كل من تركيا وصربيا في السنوات الأخيرة، ووفقًا لدراسة أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في أغسطس/ آب 2021، فإن 12 بالمئة من المواطنين الصرب يرون أن تركيا "دولة حليفة" تشارك بلادهم مصالحها وقيمها، كما أشار 56 بالمئة من المواطنين الصرب أن تركيا "شريك ضروري" من أجل بلادهم.
وبالنسبة لتركيا، تحول البلقان إلى جزء مهم من السياسة الخارجية التركية في العشرين عامًا الماضية، ورغم أن العديد من القضايا مثل الربيع العربي، والحوادث الإرهابية التي عكرت صفو الأمن في تركيا، والمشكلة السورية، وأزمة اللاجئين، ومحاولة الانقلاب في 15 يوليو/ تموز جعلت تركيا أكثر انشغالًا بسياساتها الداخلية، إلا أن علاقتها الوثيقة مع البلقان استمرت في التطور خلال تلك المرحلة الصعبة.
وإلى جانب ما سبق، شهدت دول البلقان تزايدًا ملحوظًا لأنشطة وقنوات الدبلوماسية العامة، وعلى رأسها وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا"، ورئاسة شؤون أتراك المهجر والمجتمعات ذات القربى، والمعهد الثقافي التركي "يونس أمره"، ووقف المعارف التركي، ورئاسة الشؤون الدينية، والخطوط الجوية التركية، وبنك خلق "Halkbank"، وبنك الزراعة "Ziraat Bank"، إضافة إلى أنشطة دعم مشاريع البنية التحتية والطرق التي ينفذها رجال أعمال أتراك.
جميع ما سبق ساهم بشكل كبير في تطوير العلاقات الثنائية لتلك البلدان مع تركيا.
وعلى الرغم من التغييرات السياسية في البلقان، تحافظ تركيا على صورتها الإيجابية في المنطقة كلاعب لا غنى عنه، وعليه يمكننا تلخيص أسباب ذلك تحت خمسة عناوين رئيسية:
1- تركيا لا تفرض إملاءات سياسية ولا تتدخل في قرارات دول البلقان وسياسات تلك الدول الداخلية والخارجية، وهذا يضعها في موقع الدولة الحليفة لدول المنطقة. بدورها القوى النشطة في البلقان، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، تقوم بتوجيه السياسات المحلية والإقليمية بما يتماشى مع إرادتها، من خلال المطالبة باستيفاء شروط معينة مقابل المساعدات الممنوحة. مثل هذه المبادرات تعتبر مهينة من قبل مجتمعات البلقان ولا تلقى قبولا على المستويين الشعبي أو الرسمي.
وعلى سبيل المثال، ذكّر رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، بالتوتر التركي اليوناني الذي كان لا يزال مستمراً في ذلك الوقت، في مؤتمر نظمه معهد الجامعة الأوروبية في مايو/ أيّار 2021.
وتابع قائلًا: لم نتلق أي مبادرة أو عرض من تركيا نحو دفعنا للتدخل والتوسط لحل الخلافات مع اليونان، وعلى عكس تركيا، تجاهلت اليونان حقوق تركيا والقبارصة الأتراك في جزيرة قبرص وأدلت بتصريحات قاسية من أجل جذب العديد من الدول الأوروبية ودول البلقان لاستثمار الموارد الطبيعية في شرق البحر المتوسط، بمنأى عن تركيا.
من ناحية أخرى، أدانت تركيا سياسات كوسوفو، أول دولة ذات أغلبية مسلمة تفتح سفارة في القدس في مارس/ آذار 2021، لكنها لم تفرض عقوبات تجاه تعطيل العلاقات مع هذا البلد. حتى أن الرئيس أردوغان أعلن في يوليو/ تموز 2021، أن بلاده تبذل قصارى جهدها من أجل زيادة عدد البلدان التي تعترف بكوسوفو. معربًا عن عدم نيّة بلاده سحب دعمها لكوسوفو بسبب نقل الأخيرة سفارتها إلى القدس.
2- وتماشياً مع مبدأ "الحفاظ على الاستقرار الإقليمي" في سياستها الخارجية، تتابع تركيا عن كثب التطورات الإيجابية في المنطقة وتدعم أي مبادرة لحل مشاكل البلقان وبقية المناطق.
وعلى سبيل المثال، رحبت تركيا باتفاقية "بريسبا"، التي أنهت نزاع التسمية الذي دام أكثر من 27 عامًا بين اليونان ومقدونيا، والذي جرى بموجبها تغيير اسم مقدونيا ليصبح "شمال مقدونيا" في يناير/ كانون الثاني 2019.
من ناحية أخرى، تولت تركيا رئاسة عملية التعاون بجنوب شرق أوروبا للمرة الثالثة في الفترة بين 1 يوليو/ تموز 2020 و30 يونيو/ حزيران 2021، ووضعت منظورًا شاملًا تجاه المنطقة ووجهت رسائل تشدد على ضرورة الوحدة والتآزر.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، عُقدت اجتماعات آليات ثلاثية بين تركيا والبوسنة والهرسك وصربيا، وبين تركيا والبوسنة والهرسك وكرواتيا، في نطاق عملية التعاون في جنوب شرق أوروبا، لتضع تلك الاجتماعات مبادئ السياسة الخارجية التركية تجاه البلقان، فيما دعمت تركيا تكامل دول المنطقة مع المؤسسات الأوروبية الأطلسية.
3- على عكس بعض الدول، لا تحاول تركيا خلق هيمنة اقتصادية من خلال المشاريع التي تمولها أو القطاعات المصرفية التي تديرها، وبذلك تحافظ على مكانتها باعتبارها "حالة تجارية" في المنطقة. ولهذا السبب لم تشهد حركة التبادل التجاري بين تركيا ودول البلقان انخفاضًا كبيرًا، فقد تم تصدير 10 مليارات و213.6 مليون دولار إلى البلقان في الأشهر العشرة الأولى من عام 2020، وذلك وفقًا لبيانات جمعية المصدرين الأتراك.
كما تعمل تركيا على تحويل القطاع المصرفي إلى أداة للقوة الناعمة، في إطار مبدأ يضمن توزيع عادل للأرباح وتوفير حوافز للأعمال التي تعود بالفائدة على المنطقة والمستثمرين على حد سواء ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة المحلية والمشاريع الاجتماعية وتقديم العديد من الفرص مثل الإعفاء الضريبي والحوافز للشركات التركية المستثمرة في المنطقة.
4- وبخلاف بعض الدول الفاعلة في المنطقة، لا تنظر تركيا إلى القضايا الموجودة في منطقة البلقان من منظور الهوية القومية والدين. بالطبع، يمكن القول إن تركيا تولي للمسلمين في المنطقة اهتمامًا خاصًا، ولكنها في الوقت نفسه ترتبط بخلفيات تاريخية وثقافية مهمة مع سائر المكونات في البلقان، لذلك تواظب أنقرة على التعامل مع القضايا الإقليمية بعناية وبشكل متوازن من أجل الحفاظ على المجتمعات متعددة الثقافات والأعراق والأديان في البلقان.
وعلى سبيل المثال، افتتحت تركيا عام 2020، قنصلية عامة في مدينة "بانيا لوكا"، العاصمة الفعلية لجمهورية صرب البوسنة في البوسنة والهرسك، من أجل إجراء حوار سياسي متوازن رفيع المستوى مع جميع مكونات المنطقة. فيما أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو أن بلاده تعتزم افتتاح قنصلية عامة في مدينة "نوفي بازار"، إحدى مدن منطقة سنجق ذات الغالبية التركية المسلمة في البوسنة.
ونتيجة لهذا الموقف المتوازن، تمكنت تركيا من الحصول على دعم المسلمين وكسب ثقة الساسة القوميين الصرب الأرثوذكس مثل دوديك، وإقامة علاقات وطيدة مع الدول ذات الغالبية المسلمة في البلقان مثل كوسوفو وألبانيا، والدول ذات الغالبية الكاثوليكية مقل كرواتيا وذات الغالبية الأرثوذكسية مثل صربيا.
5- تمكنت تركيا من تأسيس رؤية بناءة في البلقان، تحافظ من خلالها على السلام والاستقرار في المنطقة، وتشارك في أعباء تنمية البلقان من خلال المشاركة في العديد من المشاريع التي يدعمها الاتحاد الأوروبي وتحقيق المصالح المشتركة وضمان لعب تركيا دور فاعل. لهذا السبب، لا تدخر تركيا جهدًا في تنظيم أنشطة اجتماعية وثقافية بالتوازي مع تنفيذ مشاريع في مجالات اقتصادية وتجارية وتأسيس البنى التحتية والنقل والصناعات الدفاعية والطاقة والزراعة.
نتيجة لذلك، ونظرًا لأن تركيا فاعل مهم يسعى لتحقيق التعاون والحوار في البلقان، فهي في الوقت نفسه تمتلك القدرة على الحفاظ على العلاقات الوثيقة الراسخة وكسب ثقة دول المنطقة، فضلًا عن أن القرب الجغرافي والثقافي لتركيا بالإضافة إلى نهجها المتوازن تجاه المنطقة مكن أنقرة من الاضطلاع بدور فاعل وإيجابي في المنطقة، قادر على الاستمرار رغم تعاقب الحكومات في البلقان.
مقال تحليلي نشرته وكالة الأناضول، من إعداد ديلك كوتوك، وهي باحثة في الشؤون الدولية تعد رسالة دكتوراه حول غرب البلقان في كلية العلاقات الدولية بجامعة الحضارات إسطنبول.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!