د. سمير صالحة - العربي الجديد
نشر سفير الولايات المتحدة في أنقرة، ديفيد ساترفيلد، بالتزامن مع جلسة للمجلس الوزاري التركي برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان، مخصصة لبحث الخطوات الواجب اتخاذها في التعامل مع بيان الدول الغربية العشر، الداعي إلى الالتزام بقرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، والإفراج الفوري عن رجل الأعمال والناشط السياسي، عثمان كفالا، نشر تغريدةً ساهمت في إزاحة سيناريو وقوع أكبر أزمة دبلوماسية وسياسية في العلاقات التركية الغربية، الدائمة السخونة والجهوزية للانفجار.
خطوة السفير الاميركي، والتي أيّدتها الدول الموقعة على بيان الانتصار لكفالا، حول التزام بلدانهم بالمادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الموقّعة عام 1961، والداعية إلى عدم تدخل البعثات الدبلوماسية بشوؤن البلدان التي تستضيفها، واكبتها ردّة فعل إيجابية من أنقرة، حيث كانت الخارجية التركية تضع اللمسات الأخيرة على تنفيذ تعليمات الرئيس أردوغان بطرد أهم السفراء الغربيين عندها، بينهم الأميركي والألماني والفرنسي، وإعلانهم أشخاصا ً"غير مرغوب فيهم".
حسب القيادات السياسية التركية، لم يكن بيان السفراء العشرة توصيات أو نصائح أو اقتراحات، بل أوامر يوجهونها، ويدعو إلى تنفيذها الفوري. وما أغضب أنقرة أكثر، ودفع أردوغان إلى الذهاب نحو الخاتمة مباشرة، والدعوة إلى طردهم من البلاد، أن السفراء كانوا يتحرّكون بعلم حكوماتهم واستشارتها، في مضمون البيان الذي جاء بالتزامن مع مرور أربع سنوات على وجود كفالا في السجن أولاً، ثم تنصيب أنفسهم أوصياء ووكلاء على مؤسسات المجلس الأوروبي للتصعيد ضد تركيا على هذا النحو ثانياً.
مفاجأة أخرى، جمّدت تغريدة السفير الأميركي التصعيد بشأن البيان المنشور، لكنها لم تجمّد أزمة التعامل مع قضية كفالا، أو تزل أسبابها واحتمالات اندلاعها مجدّداً. ما زال كل طرف على موقفه في الملفّ، والعواصم الغربية تستعد، اعتباراً من ديسمبر/ كانون الأول المقبل، لبحث إجراءات ستتخذها لإلزام أنقرة بتنفيذ قرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية الداعية إلى الإفراج السريع عن كفالا.
بين السفراء الذين كانوا سيبعدون، الأميركي والفرنسي والألماني والهولندي، ويصل حجم التبادل التجاري بين تركيا ودولهم إلى 40 مليار دولار سنوياً، إلى جانب عشرات المليارات من مشاريع الاستثمار في الجانبين. ثلث صادرات تركيا هي مع الدول العشر التي سبعٌ منها شركاء لتركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكلها تجلس معها تحت سقف واحد في المجلس الأوروبي، فهل من المعقول الدخول في مغامرة التفجير على هذا النحو؟ مسار جديد كان سيحمل معه نقاشاتٍ بشأن هوية تركيا الغربية، ومسألة بقائها داخل المؤسسات الأوروبية العديدة، مثل المجلس الأوروبي والمجموعة الأوروبية ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي من جهة، واحتمالات إدارة أنقرة وجهها أكثر فأكثر نحو روسيا والصين ومجموعة شنغهاي ومنطقة آسيا الوسطى من جهة أخرى.
قرار المحكمة الاوروبية ملزمٌ لتركيا، لأنها تعهدت في عام 2004 مع حكومة العدالة والتنمية تطبيق قرارات المحكمة، وجعلها جزءاً من مواد الدستور وقوانين العقوبات في تركيا، لكن السفراء تحرّكوا بقرار سياسي تصعيدي، يأخذ مكان المؤسسات الأوروبية، ما أغضب أنقرة التي لجأت، على الفور، إلى تذكير السفراء بضرورة احترام بنود اتفاقية فيينا الدولية، وضرورة عدم تدخلهم بالشؤون الداخلية للبلدان التي يعملون فيها.
هل كانت أزمة مفتعلة لتذكير تركيا بواجباتها وتعهّداتها والتزاماتها الغربية، بعدما بدأت تغازل الروسي والصينيين والإيرانيين، وتفتح على حسابها في التعامل مع ملفات سياسية واستراتيجية تقلق الغرب وحلفائهم الإقليميين؟ هناك أيضاً من يتساءل في تركيا عم إذا ما كان بين أهداف السفراء مثلاً عرقلة احتمال إطلاق القضاء التركي سراح كفالا خلال جلسة الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني)، بافتعال أزمة كبيرة من هذا النوع، تبقي التوتر القائم بين الغرب وتركيا؟
يقول أردوغان: الزموا حدودكم، وضعوا جانباً مسألة إعطاء الدروس لتركيا. هل تطلقون أنتم سراح الإرهابيين الخارجين عن القانون؟ ليس هذا ربما ما أغضب الغرب، بل إصرار القضاء التركي على محاكمة الدبلوماسي الأميركي السابق، هنري باركي، غيابياً بتهم التجسس والمساس بالأمن القومي التركي، وهو الذي كان في إسطنبول يوم المحاولة الانقلابية الفاشلة، 15 يوليو/ تموز 2017، وكان يشارك في اجتماعات بعيدة عن الأضواء مع مجموعات المجتمع المدني المقرّبة من كفالا. إلى ذلك، توقيت إعلان تقرير المفوضية الأوروبية، بشأن العلاقة مع تركيا التي يسودها كثير من التوتر والخلافات التي تحول دون أي تقدّم حقيقي في مسار عضويتها داخل الاتحاد الأوروبي، ورقة أخرى سيلعبها الغرب ضد أنقرة عند التفاوض حول ملفات استراتيجية كثيرة عالقة بين الجانبين، وتسخين مسألة كفالا على هذا النحو قد تكون بين الأهداف الأوروبية. وهناك احتمال آخر لا يُستبعد في تركيا، بشأن دوافع تحرّك السفراء الغربيين على هذا النحو. الحرية اليوم لكفالا، كما قال رئيس البرلمان الأوروبي، ديفيد ساسولي، وغداً يأتي الدور على رئيس حزب الشعوب الديمقراطية المسجون منذ أربع سنوات، صلاح الدين دميرطاش، وبعدها قيادات (وكوادر) جماعة فتح الله غولن، المتهمة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.
نُقل عن الناطق باسم البيت الأبيض، جين بساكي، قوله إن احتمال لقاء الرئيسين بايدن وأردوغان على هامش قمة الدول العشرين في روما اليوم وغداً (30 و31 أكتوبر/ تشرين الأول) ممكن، لأن "هناك في برنامج الرئيس الأميركي فراغ، ونحاول إنجاز برنامج اللقاءات الثنائية للرئيس". لم يحسم البيت الأبيض موقفه بعد في انعقاد مثل هذه القمة، والتي ستكون حتماٍ بالغة السخونة، بسبب تراكم الملفات العالقة التي لا رغبة لأحد في حلها، فهل كان توقيت التفجير الغربي للعلاقات مع تركيا يهدف إلى عرقلة هذا الاجتماع أيضاً؟
ليست المشكلة في مضمون البيان ربما، بل في الموقف الذي تبنّته هذه الدول في هذه المرحلة الصعبة التي تعيشها العلاقات التركية الغربية. هي عملية فتح الأبواب غربياً أمام انفجارٍ أكبر في العلاقات، بسبب ملفات خلاف وتباعد تنتظر تحت الرماد، ويتم تأجيل التصعيد فيها، كي يطفح الكيل تماماً. الهدف هو ليس حتماً تحويل كفالا إلى رمز غربي في المواجهة مع تركيا، بل لعب ورقته فرصة للتصعيد أكثر فأكثر مع أنقرة. وعلى الرغم من انتقادات المعارضة التركية طريقة تعامل الرئيس أردوغان وحزبه مع الملف، تميل الأجواء السياسية والشعبية، في غالبيتها، لصالح القرارات والخطوات التي تبنّاها الرئيس التركي في التعامل مع بيان السفراء. وقد سجّلت أوروبا، في المقابل، موقفاً جديداً، يقول إنها جاهزة للوحدة ضد تركيا عند اللزوم، وإن ما حدث سيتكرّر إذا ما كانت تركيا تريد أن تبقى داخل الدوائر والمؤسسات الغربية.
وثمّة حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها في أنقرة، أن طرد السفراء العشرة لو تم كان سيعتبر خطوة سياسية مرتبطة بخروجهم عن نص المادة 41 من اتفاقية فيينا للشؤون الدبلوماسية، لكن أزمة كفالا، بشقها القانوني، كانت ستظلّ ماثلة أمام أنقرة في علاقاتها مع المجلس الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان في ستراسبورغ، وتنتظر الحل.
هدأت الأمور ولم يحزم السفراء حقائبهم للمغادرة، لكن ذلك لن يعني، في أحسن الأحوال، تراجع أنصار إبعاد تركيا عن المؤسسات الغربية والأوروبية، وتزايد عدد المتشدّدين الرافضين قبولها داخل هذه الدائرة السياسية والثقافية والاجتماعية والحقوقية عن مواقفهم. لقد أعطاهم ملف كفالا الفرصة التي يريدونها، وهم سيستغلونها بعد اليوم فرصةً تباعد بين أنقرة وهذه العواصم.
التراجع التركي الغربي المتبادل للحؤول دون انفجار سياسي ودبلوماسي كبير في العلاقات لا يعني أن أسباب الخلاف والتباعد قد أزيلت، بل يميل ما جرى أكثر إلى إرجاء مكان المواجهة وزمانها، بانتظار أسباب ودوافع أهم وأكبر لإشعال الجبهات.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس