د. سمير صالحة - أساس ميديا
حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع تسلّمه السلطة قبل 4 أعوام، صناعة سياسة فرنسية جديدة في ليبيا تكون مقدّمة لإخراج باريس من ورطتها الإفريقيّة، فلجأ إلى بناء تحالفات مع لاعبين محليّين راهن عليهم في حسم الأمور عسكرياً عبر التقدّم العسكري باتّجاه العاصمة الليبية. لكنّ التوازنات الإقليمية والدخول التركي على الخطّ حالا دون ذلك. تجاهل وجود مجموعات فاغنر في قلب المعادلات الليبية حتى الأمس القريب، لكنّه بدأ يشنّ الحرب عليها وعلى محرّكها الروسي عندما خيّبت آماله في دعم مشروع السيطرة على طرابلس الليبية. احتمى بالاتحاد الأوروبي ليقوّي موقفه في مواجهة أنقرة عبر تشكيل مجموعة "ايريني" البحرية لقطع الطريق على دخول السلاح والعتاد التركيين إلى طرابلس، لكنّه واجه تصلّباً تركيّاً واكبه استعداد أنقرة لكلّ السيناريوهات مع باريس، ومن بينها المواجهة العسكرية المباشرة لحماية مصالحها هناك. آخر المحاولات كانت لعب ورقة تجميد عمل وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، ومحاولة فرنسا رمي الكرة في ملعب تركيا وتوريطها بالوقوف وراء القرار لولا رفض رئيس الوزراء الليبي، الذي كان موجوداً آنذاك في العاصمة التركية، لقرار المجلس الرئاسي الليبي.
تقع السياستان التركية والفرنسية في ليبيا على طرفيْ نقيض، والمواجهة بينهما هناك قديمة تعود أهمّ مراحلها إلى فترة حكم الرئيس نيكولا ساركوزي قبل عقد، حين قام بزيارة خاطفة لطرابلس بعد مقتل الرئيس الليبي معمّر القذافي، فردّ عليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بزيارة مماثلة بعد يوم واحد، في رسائل متبادلة تتّصل بحماية المصالح والنفوذ.
تدعو باريس حليفها اليوناني إلى مؤتمر يبحث الملفّ الليبي، وتُجلِس رئيس الوزراء اليوناني كرياكوس ميتسوتاكيس إلى طاولة يجلس إليها رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي الذي طردته أثينا في كانون الأول من عام 2019 بسبب الاتفاقية الليبية التركية لترسيم الحدود البحرية بينهما، فهل تتجاهل أنقرة ذلك؟
تعلن فرنسا أنّها جاهزة لتأهيل وتدريب الكوادر الليبية على إدارة شؤون الدولة الحديثة في محاولة لتسجيل اختراق سياسي جديد، وهي تعرف أنّ مشكلتها الأساسية تبقى التموضع التركي الجديد في ليبيا عبر عشرات الاتفاقيات والعقود التجارية والأمنيّة والسياسية. فلماذا يلتقي إردوغان بنظيره الفرنسي على هامش أعمال قمّة مجموعة العشرين في العاصمة الإيطالية على الرغم من كلّ ملفّات الخلاف والتوتّر في أكثر من بقعة جغرافية تتضارب فيها المصالح والحسابات؟
ثلاث مؤتمرات باريسية
استضافت فرنسا قبل أيام مؤتمراً دولياً يتعلّق بالوضع في ليبيا، وهو المؤتمر الثالث الذي تنظّمة باريس خلال 5 سنوات، معلنةً هذه المرّة تخلّيها عن سياستها السابقة القائمة على الانحياز إلى طرف على حساب طرف آخر. وقد دعا البيان الختامي للمؤتمر جميع الجهات الفاعلة الليبية والمرشّحين إلى التقيّد بالتزامهم إجراء الانتخابات في 24 كانون الأول المقبل وقبول نتائجها. وحذّر البيان من أنّ الأفراد أو الكيانات داخل ليبيا أو خارجها، الذين قد يحاولون أن يعرقلوا العمليّة الانتخابية أو يقوّضوها أو يتلاعبوا بها أو يزوِّروها، سيخضعون للمساءلة، وقد يُدرَجون في قائمة لجنة الجزاءات التابعة للأمم المتحدة. قد يكون هذا هو الإنجاز الوحيد الذي حقّقه ماكرون من خلال هذا المؤتمر الذي حشد له إقليمياً ودولياً في محاولة لاسترداد الدور الفرنسي هناك، وإجلاسه رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، عن يمينه ويساره.
هل يمكن اعتبار التمثيل العالي الأميركي والألماني والإيطالي كافياً للقول إنّ باريس نجحت في استرداد ما فقدته من نفوذ في ليبيا لمصلحة تركيا وروسيا؟
لا طبعاً، فأنقرة وموسكو، أهمّ لاعبين في الملفّ الليبي، شاركا في تمثيل منخفض المستوى، حيث اكتفت موسكو بإرسال وزير خارجيّتها سيرغي لافروف، في حين قرّرت أنقرة المشاركة بإرسالها مساعد وزير الخارجية سونار غودال، في رسالة واضحة إلى باريس أنّها لن توافق على فتح الطريق أمامها لتكون لاعباً مؤثّراً في الملفّ، وهي التي تبنّت سياسة تصعيدية ضدّها في ليبيا وشمال إفريقيا.
كان حلم ماكرون هو الحصول على دعم المشاركين في المؤتمر للتصوّر الفرنسي، وأن تُدرَج على جدول المؤتمر مسألة المصادقة على خطّة إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية من ليبيا، والرسالة في هذا الإطار هي لتركيا وروسيا قبل غيرهما. لكنّ المؤتمرين لم يمنحوه مثل هذه الفرصة لأنّ التوازنات الحسّاسة هناك لم تسمح بذلك. فاكتفى بالدعوة إلى دعم توفير الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات المقرّرة في موعدها.
حاول ماكرون أن يقنع إردوغان خلال لقائهما على هامش أعمال قمّة الدول العشرين في روما بحضور مؤتمر باريس الليبي، لكنّ الرئيس التركي تمسّك بقرار عدم المشاركة ما دامت إسرائيل أو اليونان أو قبرص اليونانية ستحضر نقاشاً يتمّ استبعاد القبارصة الأتراك عنه. فتحوّل هدف ماكرون إلى محاولة محاصرة أنقرة وموسكو في موضوع انسحابهما عسكرياً وميدانياً من المعادلة الليبية قبل أن يكون محاولة للدفع نحو إجراء الانتخابات المعلنة في موعدها. لم يحصل على ما كان يمنّي النفس به في المؤتمر، فقرّر فتح نيرانه على تركيا وروسيا مباشرة بحضور الأقطاب السياسية الليبية في السلطة وحليفيْه الألماني والإيطالي رموز الترويكا الأوروبية في الملفّ، فقال إنّه "يتعين على تركيا وروسيا أن تسحبا من غير تأخير مرتزقتهما وقواتهما العسكرية، لأنّ وجودها لا يهدّد استقرار ليبيا وحدها، بل كلّ المنطقة".
المراد أن ينعقد المؤتمر تحت رئاسة إيطالية ألمانية فرنسية مشتركة، والمعلن هو تأكيد دعم المسار الانتخابي والحاجة إلى حلّ ليبيّ-ليبيّ شامل للأزمة، لكنّ اللامعلن في أهداف التحرّك الغربي برئاسة فرنسيّة هو محاولة ضبط التوازنات مجدّداً في شمال إفريقيا وأمام السواحل الليبية بعدما فشلت خطة "ايريني" التي رفضتها تركيا وروسيا. كلّ ما قدّمته أنقرة وموسكو كان عبارة عن وعود بدعم ليبيا في التغلّب على تداعيات أزمتها، وحشد جهود إضافية من المجتمع الدولي لتسهيل عملية التسوية الليبية.
الاعتراف بالنفوذ التركي
إنّ تساؤلات البعض في باريس قبل أسابيع عمّا يفعله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في أنغولا ونيجيريا وتوغو بعيداً عن وطنه، تتجاهل تماماً السؤال عمّا يبحث عنه الرئيس الفرنسي ماكرون وهو يحشد قيادات غربية وشرق أوسطية في العاصمة الفرنسية لبحث مسار الملفّ الليبي.
ما يُغضِب ماكرون ويدفعه إلى التصعيد على هذا النحو ضدّ نظيره التركي ليس الملفّ الليبي حتماً، بل سياسة التمدّد والانتشار التركي المعتمدة منذ عقد في كلّ الحدائق الخلفيّة لفرنسا، والتي تشمل أهمّ المناطق الاستراتيجية في قلب القارّة السمراء.
لم يدُم طويلاً مفعول رسالة ماكرون إلى إردوغان في منتصف كانون الثاني الداعية إلى التهدئة والحوار وتحسين العلاقات، فأسباب الخلاف كثيرة، وهي أبعد من أن تتعلّق بملفّات ثنائيّة لأنّ معظمها يرتبط بقضايا إقليمية ساخنة وحرب نفوذ تتجاوز شرق المتوسط والشرق الأوسط إلى العمق الإفريقي نفسه.
وصل تعويل ماكرون على عواصم إقليمية تدعمه في سياسته الليبية إلى طريق مسدود عندما بدأ الحوار التركي المصري والتركي الإماراتي في الأشهر الأخيرة، ولم يعد بيده من أوراق كثيرة يلعبها في ليبيا سوى الرهان على الإدارة الأميركية الجديدة تعطيه ما يريده حتى لو كان الثمن هو صمته على الضربة التي ألحقتها واشنطن به في صفقة الغوّاصات. ذهب ماكرون إلى أثينا ليبيعها المقاتلات للانتقام من أنقرة، وهو يعرف أنّ المواجهة باتت صعبة لأنّ إردوغان تمكّن من الحصول على الكثير من الاتفاقيات لبيع المسيَّرات التركية في إفريقيا بعد نجاحها الاستراتيجي في سوريا وليبيا والقوقاز وشمال العراق.
يهدّد ماكرون معرقلي العملية الانتخابية المرتقبة في ليبيا بالعقوبات الدولية، وهي رسالة فرنسية تقول إنّ قصر الإليزيه رسم معالم المرحلة السياسية والبرلمانية المقبلة في ليبيا، وإنّه يعوّل على فوز حلفاء وشركاء فرنسا هناك، وهي تقصد أنقرة قبل غيرها، فهي التي قد تعرقل المسار الانتخابي لأنّها ستخسر الكثير من الأوراق التي كانت تملكها حتى اليوم، حسب تقديرات الموقف الغربية.
لكنّ باريس تعرف أكثر من غيرها أنّ العملية الانتخابية بحدّ ذاتها فيها الكثير من الغموض والعقبات التقنية والقانونية والسياسية التي لن يكون سهلاً تجاوزها، وأنّ ما قبل 24 الشهر المقبل حافل بالتطوّرات والمفاجآت. وقد جاءت الخطوة الأولى بعد أيام على انتهاء أعمال مؤتمر باريس، حيث بات من الواضح أنّ المواقف هناك من عدم عرقلة العملية الانتخابية، وتجاهل القرارات الدولية والقضائية الليبية، كانت في طليعة الأسباب المشجّعة لسيف الإسلام القذافي على تقديم أوراق ترشّحه للمنافسة على منصب الرئاسة في بلاده.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس