د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
توترت العلاقات بين أنقرة والمجلس الأوروبي مرة أخرى بسبب ملف رجل الأعمال والناشط التركي عثمان كفالا المسجون منذ أكثر من 4 سنوات بتهمة المشاركة في الإشراف على احتجاجات "غزي بارك" في إسطنبول قبل 7 أعوام وثبتت براءته من التهم. لكن القضاء لم يخل سبيله موجها إليه تهما جديدة وهي التجسس والإضرار بمصالح الدولة إبان المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها البلاد عام 2016.
دعا المجلس الأوروبي وبناء على قرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية تركيا أكثر من مرة لإطلاق سراح كفالا بسبب عدم تقديم الأدلة الثبوتية المقنعة التي تستوجب إبقاءه في السجن، لكن القضاء في تركيا يتمسك بمحاكمته في ملف تهم تتطلب استمرار اعتقاله على ضوء الفذلكة الجديدة التي قدمها المدعي العام التركي العام المنصرم. آخر تطورات الملف – الأزمة كان قرار إرسال اللجنة الوزارية في المجلس طلبها إلى المحكمة الأوروبية في ستراسبورغ تدعوها للإجابة على استفسار إذا ما كانت تركيا قد أخلت بمواد الاتفاقيات الموقعة وخرجت عن التزامات تنفيذ قرارات المحكمة، لتحدد على ضوء الإجابة موقفها السياسي في التعامل مع أنقرة الشريك والعضو المؤسس في المنظومة منذ العام 1949.
هل يحاول المجلس عبر اتخاذ قرار جديد من هذا النوع منح أنقرة الفرصة لحسم موقفها وتحقيق تقدم حقيقي في الملف؟ أم هو يحتاج فعلا إلى مسند قضائي حقيقي للمضي وراء سياسة التصعيد مع تركيا في القضية وتفجير العلاقات السياسية بين الطرفين؟
رد محكمة العدل على طلب المجلس سيستغرق أشهرا طويلة وقد يسبقه الكثير من المفأجات في التعامل مع الملف.
الاحتمال هو أن لا تصل الأمور إلى نقطة القطيعة لأنها ستكون السابقة الأولى من نوعها بين الدول الأعضاء، ولأن المشهد تحت سقف التكتل يكاد يقول على ضوء عملية التصويت الأخيرة حول الملف، إن الموضوع قد يتسبب بأزمة أكبر داخل المجلس في عملية اصطفافات سياسية هو بغنى عنها. فهناك من دعم مطلب التصعيد ضد أنقرة وهي العواصم الأوروبية الغربية التي تحركها باريس وبرلين والدول الاسكندنافية، وهناك من قرر الوقوف على الحياد في عواصم دول أوروبا الشرقية مثل موسكو وكييف وزغرب وصوفيا وبوخارست باستثناء أذربيجان والمجر اللتين صوتتا إلى جانب تركيا في رفض قرار المجلس.
احتمال وصول الأمور إلى قرار تركي بالانسحاب من التكتل الأوروبي مستبعد أيضا بعدما بذلت أنقرة جهودا كبيرة في دعم تأسيسه والمشاركة فيه على طريق انفتاحها على أوروبا والغرب منذ نهاية الأربعينيات وحتى اليوم. عضوية تركيا في المجلس الأوروبي أريد لها أن تكون المسند السياسي الأكبر لطلب التحاقها بالمجموعة الأوروبية لكن العكس هو الذي حصل. الاتحاد الأوروبي هو الذي يستغل ورقة سلبيات العلاقة بين أنقرة وستراسبورغ لتبرير فشل تسجيل أي اختراق حقيقي في العلاقات بين أنقرة وبروكسل.
صحيح أن الرئيس رجب طيب أردوغان قال وهو يعقب على تطورات الملف إن "من لا يحترم قرارات القضاء التركي لن نحترم قراراته". لكن التصعيد في الملف يعني توتير العلاقات التركية الغربية والتركية الأوروبية تحديدا أكثر مما هي متوترة، وأن المواجهة سيكون لها ارتداداتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على العلاقات لن يستطيع كلا الطرفين تحمل نتائجها، خصوصا وأن المادة 90 من الدستور التركي تقر بقبول قرارات المجلس الأوروبي ومحكمته كمرجع قضائي أول في الملفات الخلافية التي تنقل إلى المجلس.
هل يستطيع حزب العدالة والتنمية إقناع الداخل التركي بصوابية ما يقول ويكسب دعم الشارع في مسألة من هذا النوع لم يحقق القضاء التركي فيها بعد أي تقدم حقيقي بين براءة وتجريم المتهم؟ هل يستطيع الحزب تحمل ارتدادات الملف السياسية والانتخابية عليه إذا ما وصل الأمر إلى القطيعة مع الغرب حول ملف القضية؟
وقعت تركيا اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية عام 1954 وأعلنت قبولها لتوجه الأفراد إلى مقاضاة مؤسساتهم الرسمية أمام المحكمة عام 1987، وصادقت في العام 1990 على تنفيذ قرارات المحكمة وقبولها كمرجع قانوني أساسي في دستورها فلماذا تواجه العواصم الأوروبية التي توحدت معها لحماية مصالحها وتثبيت تبنيها لمبادىء وأسس الدفاع عن الحريات والعدالة والديمقراطية داخل هذه المنظومة؟
هناك العديد من الكتاب ورجال القانون الأتراك يذكرون حزب العدالة وقياداته كيف لجؤوا هم إلى محكمة العدل الأوروبية لمطالبتها بالوقوف إلى جانبهم خلال الاعتراض على قرار القضاء التركي بسجن الرئيس أردوغان بسبب قراءته مقاطع من أبيات شعر، ثم تفاعل نقاشات حظر حزب العدالة والتنمية قبل سنوات وطلب الحزب الحاكم دعم المجلس الوقوف إلى جانب المعترضين على قرارات "الانقلاب المعولم" وخطوات حظر الحجاب في المؤسسات التعليمية والرسمية في التسعينيات. أقلام المعارضة التركية تردد أن سخرية الواقع هي أن يتجاهل حزب العدالة اليوم قرارات ودعوات محكمة العدل والمجلس الأوروبي الذي وقف إلى جانبه أكثر من مرة وأعطاه ما يريد تحت سقف حماية الحريات والعمل الديمقراطي في تركيا. هناك من يقول لنا أكثر من ذلك. أردوغان هو من أشرف في العام 2004 على تعديل النصوص الدستورية التي تطلق يد المحكمة الأوروبية لناحية تبني قراراتها والالتزام بها. كما أن البعض يذكرنا بحقبة العام 2012 عندما انتخب مولود شاووش أوغلو رئيسا للمجلس الأوروبي بدعم واسع تقديرا لتركيا وجهودها في المسار الديمقراطي الذي تبذله في الداخل والخارج.
التوتر في ذروته بين المجلس الأوروبي وتركيا في ملف كفالا وهناك عرض عضلات سياسية شئنا أم أبينا حول من الذي سيأخذ ما يريد. دول المجلس الأوروبي تقول إن ملف القضية هو واحد حتى ولو وجهت إلى كفالا تهم جديدة تعرقل إطلاق سراحه. وأنقرة تقول إن المجلس الأوروبي هو من يحاول تسييس الملف خصوصا عندما دخل سفراء بعض العواصم الأوروبية العاملين في أنقرة على الخط قبل أسابيع بما يتعارض مع مهامهم الدبلوماسية مطالبين بالإفراج عنه، وأن محكمة العدل لا تريد منح تركيا الوقت الكافي لإنجاز المحاكمة خصوصا وأن التهم الموجهة لكفالا خطيرة وكبيرة.
تقول أنقرة إن الكثير من العواصم الأوروبية لم تقف إلى جانبها في العام 2016 خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة بل حاول بعضها تبني ما جرى بصمته وتجاهله مع أن مهام المجلس الأولى هي الدفاع عن الديمقراطية وتبني أسلوب الصناديق في التغيير الديمقراطي وتجاهل ما ارتكب من جرائم ضد المدنيين ومؤسسات الدولة يومها. لكن أنقرة تعرف أيضا أن وصول الحوار إلى طريق مسدود سيؤثر حتما على مسألة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي المجمدة أصلا دون تحقيق أي تقدم منذ أعوام بعيدة. وأن ملف كفالا سيتحول إلى فرصة للعديد من الدول الأوروبية التي تتطلع لإبعاد تركيا عن المؤسسات الغربية وهي ستستغله وتتلاعب به حتى النهاية في محاولة لتجيير الموضوع إلى تصفية حسابات سياسية إقليمية مع تركيا تحت عنوان مطالبتها باحترام الاتفاقيات والعقود التي وقعتها مع الغرب.
المخرج هو قضائي والإجابة ستكون ربما عند محكمة الجزاء التي ستجتمع في 12 الشهر الحالي في إسطنبول والتي قد تسجل مفاجأة تقطع الطريق على مراسلات المجلس الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس