د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

اهتمَّ الملك العادل، نور الدين محمود زنكي بالشورى، فقد رأى أهميتها في حيوية الأمة، وأمنها، واستقرارها، والأهم من ذلك كله: أن الله جعل فيها سورة من سور القران الكريم، حملت اسمها وهو مبدأ أرشد إليه القران الكريم، وهو يمثل أرقى أشكال التعاون.

والشورى واجبة على الحاكم في الشريعة الإسلامية، وإلى هذا القول ذهب كثير من العلماء، والفقهاء، فلا يحلُّ للحاكم أن يتركها، وأن ينفرد برأيه دون مشورة المسلمين من أهل الشورى، كما لا يحلُّ للأمة الإسلامية أن تسكت على ذلك، وأن تتركه ينفرد بالرأي دونها، ويستبد بالأمر دون أن يشاركها فيه، فالأمة لا تنهض إلا إذا أخذت بفقه النهوض، والذي منه ممارسة الشورى في نطاقها الواسع.

ولقد اعتمدها نور الدين محمود، ولم ينفرد باتخاذ القرارات، بل تبادل الآراء في كلِّ أمور الدولة، فكان له مجلس فقهاء، يتألف من ممثلي سائر المذاهب والصوفية، يبحث في أمور الإدارة، والنوازل، والميزانية.

1 ـ الشورى في القضايا العامة:

 وثمة وثيقة قيمة يثبتها أبو شامة بنصها عن أحد المحاضر التي دونت بصدد عدد من قضايا الوقف والأملاك، كانت قد أُدخلت ضمن أوقاف الجامع الأموي، بدمشق، وسعى نور الدين إلى فصلها، وإعادتها إلى قطاع المنافع العامة، وبخاصة مسائل الدفاع والأمن، وقد تمثَّلت في تلك الوثيقة بوضوحٍ الرغبة الجادة لدى نور الدين في الأسلوب الشوري الحر باعتباره الطريق الذي لا طريق غيره للوصول إلى الحق.

ففي التاسع عشر من صفر سنة أربع وخمسين وخمسمئة أحضر نور الدين أعيان دمشق من القضاة، ومشايخ العلم، والرؤساء، (خليل، 1980، ص80) وسألهم عن المضاف إلى أوقاف الجامع بدمشق من المصالح ليفصلوها منها، وقال لهم: (ليس العمل إلا ما تتفقون عليه، وتشهدون به، وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، يجتمعون، ويتشاورون في مصالح المسلمين، وليس يجوز لأحد منكم أن يعلم من ذلك شيئاً إلا ويذكره، ولا ينكر شيئاً مما يقوله غيره إلا وينكره، والساكت منكم مصدِّق للناطق، ومصوِّبٌ له.

فشكروه على ما قال، ودعوا له، وفصلوا له المصالح من الوقف، فقال نور الدين: إنَّ أهم المصالح سدُّ ثغور المسلمين، وبناء السور المحيط بدمشق، والفضيل، والخندق لصيانة المسلمين، وحريمهم، وأموالهم، ثم سألهم عن فواضل الأوقاف هل يجوز صرفها في عمارة الأسوار، وعمل الخندق للمصلحة المتوجهة للمسلمين فأفتى شرف الدين المالكي بجواز ذلك، ومنهم من روّى في مهلة النظر، وقال الشيخ ابن عصرون الشافعي: (لا يجوز أن يصرف وقف مسجد إلى غيره، ولا وقف معين إلى جهة غير تلك الجهة، وإذا لم يكن بدٌّ من ذلك؛ فليس طريقة إلا أن يقترضه من إليه الأمر من بيت مال المسلمين، فيصرفه في المصالح، ويكون القضاء واجباً من بيت المال. فوافقه الأئمة الحاضرون معه على ذلك). ثم سأل ابن أبي عصرون نور الدين: (هل أُنفق شيء قبل اليوم على سور دمشق، وعلى بناء بعض العمارات المتعلقة بالجامع المعمور بغير إذن مولانا؟ وهل كان إلا مبلغاً للأمر في عمل ذلك؟) فقال نور الدين: (لم ينفق ذلك، ولا شيء منه إلا بإذني وأنا أمرت به).(خليل،1980،ص81)

2 ـ مجالس متخصصة:

كان مجلسُه ندوةً كبيرةً، يجتمع إليها العلماء، والفقهاء للبحث والنظر، (الجزري، 1963، ص173) ولم تكن المناظرات التي شهدتها مجالسه تزجيةً للوقت، وتخريجاً نظرياً للفروع على الأصول، وترفاً فكرياً... إنما كانت نشاطاً جاداً من أجل مجابهة المشاكل، والتجارب المتجددة المتغيِّرة، بالحلول المستمدة من شريعة الإسلام وفقهه الواسع الكبير، ما دام الرجل يسعى إلى إعادة صياغة الحياة في ميادينها كافةً وعلى مدى مساحاتها بما ينسجم وعقيدة الإِسلام، ورؤياه لموقع الإنسان في العالم... ومن ثم فإنَّ ندوات كهذه أشبه بمجالس أو (لجان برلمانية) متخصصة، تجتمع بين الحين، والحين لحلِّ مشكلة ما، أو استعدادُ تشريعٍ، أو إقرارُ قانونٍ.

ونحن نذكر هنا ذلك الاجتماع الموسَّع الذي مرَّ ذكره مع حشد من العلماء، الذين اختيروا لكي يمثلوا المذاهب الفقهية كافة، من أجل النظر في عدد من قضايا الوقف والمصالح العامة. وقد شبَّه ابن الأثير مجلسه بمجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم  مجلس حلم وحياء، لا تؤبن فيه الحرم، ولا يذكر فيه إلا العلم والدين، وأحوال الصالحين، والمشورة في أمر الجهاد، وقصد بلاد العدو، ولا يتعدى هذا... (الجزري، 1963، ص173)وإلى روايته الأخرى التي يتحدث فيها عن قيام نور الدين باستحضار عدد من الفقهاء، واستفتائهم في أخذ ما يحلُّ له من: (الغنيمة ومن الأموال المرصدة لصالح المسلمين، فأخذ ما أفتوه بحلِّه، ولم يتعده إلى غيره ألبَـتَّـةَ).

فما يصدر عن ممثلي الشريعة الغرَّاء يتوجب أن يكون ملزماً لكل إنسان، سواء كان في القمة أم في القاعدة، وقولهم هو القول الفصل لأن نور الدين ـ وقد عرفنا مدى صدقه مع ربّه ومع نفسه ومع رعيته ـ ما كان يريد أن يمارس الاستشارات القانونية المزدوجة، ويبرز للناس أنه لا يقدم على عمل إلا بعد الاطلاع على رأي قادة فكرهم، ومشرعي قوانينهم، ويسعى في الخفاء إلى تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً مهما كانت درجة تناقضه مع طروحات اللجان الاستشارية، والتشريعية، والبرلمانية، التي ستكون بمثابة الرداء الخارجي الذي يحمي في داخله مضامين، وممارسات لا تمتد إلى لون الرداء ونسيجه في شيء.(خليل، 1980، ص134)

وكان يكاتب العلماء للاستشارة، فقد ذكر ابن الجوزي: أنَّ نور الدين كاتبه مراراً.(ابن الجوزي،1940،ج10،ص249)  وكان نور الدين يسأل العلماء، والفقهاء عمّا يَشْكُل عليه من الأمور الغامضة وكان يقول لمستشاريه من العلماء، والفقهاء: (بالله انظروا أي شيء علمتموه من أبواب البر والخير دلّونا عليه، وأشركونا في الثواب. فقال له شرف الدين بن أبي عصرون: والله ما ترك المولى شيئاً من أبواب البر إلا وقد فعله، ولم يترك لأحد بعده فعل خيرٍ، إلا وقد سبقه إليه).(الجزري، 1963، ج1،ص374)

3 ـ فراسته في معرفة العلماء:

 لم يكن الرجل يتعامل مع العلماء بحساب الجملة، كما يقولون، حيث يختلط الفقيه بالجاهل تحت ستار العلم، ويضيع الجيد بالرديء، وحيث يبرز أحياناً من بين العلماء رجل، أو اثنان، أو أكثر، فيمتطوا المكانة التي بلغوها، ويختبئوا خلف الرداء الذي لبسوه؛ لكي يزيِّـفوا حقيقةً، أو يلبسوا باطلاً بحق، أو يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.

إن الرجل يرفض الكذب؛ الكذب على الله، وعلى الناس، وعلى الحقيقة، وبالتالي فهو يرفض الغش، والتزوير، والتضليل، والخداع، وهو ـ من الجهة الأخرى ـ يملك من الذكاء، وعمق النظر، وسرعة البديهة ما يجعله يزن الناس الذين يتعامل معهم بدقة عجيبة، كدقة الموازين، (فهو كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ متحدثاً عن نفسه: لست بالخبِّ، ولا الخبُّ يخدعني)، ومن ثم يبدو أن ليس بمقدور أي رجل أن يعبر على بداهة نور الدين، وتفحصه الذكي للرجال؛ حتى لو تدثَّر بألف رداء علمي، واختبأ خلف ستار.


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 222-226

ابي شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1418-1997.

ابن الأثير الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ  1963 م.

عماد الدين خليل، نور الدين محمود، الرجل التجربة، دار القلم 1400 هـ  1980 م.

ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، مطبعة دائرة المعارف، العثمانية، بحيدر اباد الدكن، الطبعة الأولى 1359 هـ.1940م

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس