د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

مُنذ البداية، والتكوين الجاد لنور الدين يدفعه إلى الإسراع لسدِّ أيِّ فتقٍ ، أو اعتداء من قِبل الأعداء.

فلما قُتِلَ عماد الدين زنكي 541هـ يقول ابن الأثير: «كان جوسلين الفرنجي في ولايته غربي الفرات ، (تل باشر وما جاورها) فراسل أهل الرُّها ، وكان عامتهم من الأرمن ، وواعدهم يوماً يصل إليهم فيه ، فأجابوه إلى ذلك فسار في عساكره إليها وملكها ، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين ، وقاتلهم وجدَّ في قتالهم. فبلغ الخبر إلى نور الدين، فسار مجداً إليها في العسكر الذي عنده ، فلما سمع جوسلين بوصوله خرج عن الرُّها إلى بلده ، ودخل نور الدين المدينة ونهبها وسبى أهلها ، فلم يبق منهم إلاّ القليل ، وأجلى من كان بها من الفرنج».(الجزري، 1963 ص 86 ـ 87)

وكان أبوه زنكي قد استرد هذا الموقع الخطير من الصليبيين عام 539هـ ، وأمر جنده يومها بالكف فوراً عن النَّهب ، والسلب ، والتخريب ، ومنح النصارى المحليين حريات واسعة ، وحمى كنائسهم وممتلكاتهم ، في محاولة منه لفك ارتباطهم بالغزاة الصليبيين الذين مارسوا معهم الكثير من أساليب التمييز ، والتفرقة الدينية. أما وقد تآمروا ـ ثانية ـ في آخر عهد زنكي ، وثالثة بعد مقتله لإعادة الرُّها إلى السيطرة الصليبية منها يجيء الرد بمستوى الجد الذي يقتضيه الوقت إذا ما أُريد لهذا الموقع أن يبقى مجرداً ، وألاَّ يعود ثانية إلى قبضة الغزاة.(خليل، 1980، ص12)

وفي عام 567هـ هاجم صليبيو اللاذقية مركبين للمسلمين كانا مملوءين بالأمتعة مكتظين بالتجار ، وغدروا بالمسلمين، وكان نور الدين قد هادنهم ، فنكثوا ، فلما سمع الخبر؛ استعظمه ، وأرسل إلى الصليبيين يطلب إعادة ما أخذوه ، فغالطوه ، فلم يقبل مغالطتهم ، وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته كما يقول ابن الأثير؛ إذ ما لبث أن جمع عساكره ، وبثَّ سراياه في بلاد الصليبيين بين أنطاكية ، وطرابلس ، وقام بحصار حصن عرقة ، وتخريب ربضه ، والاستيلاء على حصني صافيتا ، والعزيمة الشمالي ، وإجراء أعمال نهب وتخريب واسعة النطاق؛ الأمر الذي اضطر الصليبيين إلى مراسلة نور الدين ، يعرضون عليه استعدادهم لإعادة ما أخذوه من المركبين ، وتجديد الهدنة بين الطرفين ، فأجابهم نور الدين إلى ذلك لحاجته الماسَّة ـ كما يبدو ـ إلى هدنة كهذه.(الجزري، 1963 ص 154 ـ 155)

ويوم بلغه ما فعله جوسلين من إرسال السلاح ـ الذي كان قد استولى عليه في إحدى معاركه مع نور الدين ـ إلى حميه السلطان مسعود حاكم سلاجقة الروم. فقام نور الدين ، وقعد ، وهجر الراحة للأخذ بثأره ، فأذكى العيون على جوسلين ، وأحضر جماعة من التركمان ، وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلاً ، أو أسراً؛ لأنه علم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج ، وحَذِرَ ، وامتنع ، فأخلد إلى إعمال الحيلة.(أبو حفص، 1996، ج2ص 301-302)

وكان نور الدين ـ كما يقول ابن الأثير: «إذا فتح حصناً لا يرحل عنه حتى يملأه رجالاً وذخائر تكفيه عشر سنين ، خوفاً من نصرةٍ تتجدد للفرنج على المسلمين ، فتكون حصونهم مستعدة غير محتاجة لشيء». (الجزري، 1963 ص 103)

وهكذا ترتبط جدِّية نور الدين بذكائه الحذر ودهائه ، الذي حقق له الكثير من المكاسب ، والمنجزات ، والذي لم يتح لأحد من الأعداء في الداخل والخارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقتل ، كان كما يقول ابن الأثير: «يكثر إعمال الحيل ، والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم به».

ويضرب على ذلك مثلاً في سياسته مع مليح بن ليون ملك الأرمن في بلاد الأناضول ، فإنه ما زال يخدعه ، ويستميله حتى جعله في خدمته سفراً وحضراً ، وكان يقاتل به الفرنج ، وكان يقول: «إنما حملني على استمالته: أنَّ بلاده حصينة وعرة المسالك ، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق ، وهو يخرج منها ـ إذا أراد ـ فينال من بلاد الإسلام ، فإذا طُلب انحجر فيها فلا نقدر عليه ، فلما رأيت الحال هكذا؛ بذلت له شيئاً من الإقطاع على سبيل التالف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج» وحين توفي نور الدين وسلك مَنْ بعده غير هذا الطريق؛ ملك زعيم الأرمن بعد مليح كثيراً من بلاد المسلمين وحصونهم ، وصار منه ضرر عظيم ، وخرق واسع لا يمكن رقعه.(الجزري، 1963 ص 169)

وفي محاولته فتح دمشق أدرك: أنَّ اعتماد العنف سيستفز حكَّامها ويدفعهم إلى مراسلة الصليبيين ، والاستعانة بهم ، فعمد إلى أعمال الحيلة والسياسة ، فأخذ يراسل صاحبها مجير الدين ، ويستميله ويبعث إليه بالهدايا الموصولة ، ويظهر له المودة حتى وثق إليه ، وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إياه بنوايا عدد من أمرائه ، وإنهم بصدد الاتصال به ضدَّ ملكهم ، الأمر الذي دفع مجير الدين إلى إبعاد واعتقال عدد من أبرز أصحابه ، فلما خلت دمشق من زهرة أمرائها؛ انتقل نور الدين خطوة أخرى ، فاتصل بأحداث دمشق (أي: حرسها الشعبي) وجماهيرها ، واستمالهم ، فأجابوه إلى تسليم البلد ، وعند ذاك تقدم لحصار دمشق ، وتمكن بمعونة أهلها أنفسهم من دخولها بسهولة بالغة ودونما إراقة للدماء.(أبو حفص، 1996، ج2ص 303-305)

 فحقق بذلك الهدف الكبير ، الذي طالما سعى له أبوه قبل ذلك ، وحينما بعث إليه الفاطميون ـ كما سيأتي بيانه بإذن الله ـ يطلبون منه القيام بهجوم على المواقع الصليبية جنوبي الشام لانشغالهم عن مهاجمة مصر ، أجاب نور الدين أسامة بن منقذ سفيرهم في هذه المهمة: «إن أهل دمشق أعداءٌ ، والإفرنج أعداء ، ما امن منهما إذا دخلت بينهما».

ويحدثنا أبو شامة عن إحدى خدع نور الدين؛ حيث أغار على طبرية ، وجمع بعض أعلام الصليبيين ، وشيئاً من ملابسهم ، وسلاحهم ، وسلَّمها إلى أحد جنده قائلاً: «أريد أن تعمل الحيلة في الدخول إلى بلبيس ، وتخبر أسد الدين شيركوه ، المحاصر هناك ، بما فتح الله على المسلمين في بلاد الشام ، وتعطيه هذه الأعلام وتأمره بنشرها في أسواق بلبيس ، فإنَّ ذلك مما يفتت في عضد الكفار ، ويدخل الوهن عليهم». ففعل أسد الدين ما أُمر به ، فلما رأى الصليبيون ذلك قلقوا ، وخافوا على بلادهم ، وسألوا حليفهم شاور ـ الوزير المصيري ـ الإذن بالانفصال.(المقدسي، 1997،ص15)

كما يحدثنا ابن الأثير عن الأسلوب الذي اعتمده نور الدين في فتح حصن المنبطرة بالشام 561هـ ، فهو لم يحشد له، ولا جمع عساكره؛ وإنما سار إليه في سريّة من الفرسان على حين غرة من الصليبيين ، حيث أدرك: أنه بجمعه العسكر سيعطي الإشارة إلى خصومه لكي يأخذوا أهبتهم ، وما لبثت حامية الحصن أن فوجئت بهجوم نور الدين المباغت ، وبعد قتال عنيف سقط الحصن. ولم يجتمع لدفعه إلاَّ وقد ملكه ، ولو علموا: أنه في قلةٍ من العساكر؛ لأسرعوا إليه ، إنما ظنوه أنه في جمع كثير ، فلما ملكه تفرقوا ، وأيسوا من ردِّه ، فهذه الأحداث ، تظهر صفة الجدِّية ، والذكاء المتوقد في شخصية نور الدين.


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 159-161

ابن الأثير الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ  1963 م.

عماد الدين خليل، نور الدين محمود، الرجل التجربة، دار القلم 1400 هـ  1980 م.

عمر بن أحمد  كمال الدين أبوحفص، زبدة الحلب في تاريخ حلب،تحقيق: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، 1417ه-1996

ابي شامة شهاب الدين المقدسي، عيون الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق: ابراهيم الزيبق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق ،1418-1997

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس