ترك برس
نشر معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) دراسة بعنوان "مستقبل العلاقات التركية الروسية: سوريا نموذجاً"، تناول فيها الباحث مانكوف جيفري، مسألة التنافس الإقليمي والعلاقة المتشابكة بين روسيا وتركيا في عدة مناطق أبرزها: شمال إفريقيا، والبلقان، وسوريا، وجنوب القوقاز، ووسط آسيا، مؤكدًا أن المراقبين الغربيين يشعرون بالقلق والحيرة إزاء التقارب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بالتوازي مع المنافسة الروسية - التركية على الهيمنة والنفوذ.
ورأى الباحث أن الطموح المشترك لإضفاء الشرعية على فكرة قيام قوى إقليمية بممارسة النفوذ على محيطها، وبناء نظم حكم بديلة خارج الأطر الدولية، والعمل على تعطيل السلامة الإقليمية للدول الأصغر قد وفر أسسًا جديدة للتعاون الروسي-التركي، فمن خلال إقحام نفسيهما بشكل مباشر في نزاعات وصراعات جيرانهما؛ ضاعفت كل من روسيا وتركيا نقاط الاحتكاك بينهما، حيث تتبع أنقرة وموسكو نمطًا من النهج التشاركي الهادف إلى إضعاف النفوذ الغربي في جميع مناطق الصراع، إلا أنهما في الوقت نفسه يدعمان أطرافًا متعارضة تتقاتل فيما بينها، كما هو الحال في سوريا وليبيا، ويؤدي ذلك إلى قيام أنقرة وموسكو بتطوير عملية مساومة تتمحور حول الدبلوماسية الشخصية بين بوتين وأردوغان.
وتزعم الدراسة أن "أردوغان اضطر في سوريا إلى الإقرار بأن بشار الأسد سيبقى في السلطة خلال المستقبل المنظور؛ وذلـك مقابل موافقة روسيا على احتفاظ تركيا بسلسلة نقاط عسكرية تمتد على طول الحدود السورية-التركية للحد من وجود مقاتلي تنظيم "ي ب ك"، الذراع السوري لمنظمة "بي كا كا" المصنّفة إرهابية لدى العديد من دول العالم، وفي مقدمتها أنقرة."
وفيما يلي النص الكامل للدراسة، والمقتبس من موقع "المرصد الاستراتيجي" على شبكة الإنترنت:
وأضاف: "أما في ليبيا، فتسعى كل من روسيا وتركيا للسيطرة على الموارد، ويعارض كل منهما الجهود التي تبذلها الولايات لاستبعادهما من شبكات خطوط الأنابيب الجديدة في شرق البحر المتوسط، إلا أن افتقار تركيا للمصالح الحيوية في ليبيا جعلها أقل تحفظا في استخدام القوة ضد المصالح الروسية، ما زاد من مخاطر سوء التقدير والتصعيد الأفقي من جانب موسكو.
وأسفرت حرب "قره باغ" في تشكيل جبهة منافسة روسية-تركية، حيث ساعد الدعم التركي المباشر في قلب الطاولة على الأرمن، وعمق وجود تركيا في جنوب القوقاز.
وعلى الرغم من التدخل التركي غير المرغوب به، في منطقة طالما اعتبرتها روسيا حديقة خلفية لها؛ تمكن البلدان من فرض وقف إطلاق النار، ما عزز دور تركيا كالعب إقليمي، فيما حافظت روسيا على مكانتها كوسيط رئيسي بين باكو ويريفان
وتمثل أوكرانيا الجبهة الأكثر اشتعالاً في الوقت الحالي، حيث يهدد الروس باجتياحها بينما تنصب تركيا نفسها راعية لتتار القرم، الذين احتلت روسيا مناطقهم عام 2014 ،وتقوم تركيا في الوقت الحالي بتعزيز الروابط التجارية والعسكرية مع أوكرانيا من خلال تقديم الطائرات.
ووفقًا للدارسة فإن موسكو وأنقرة تسعيان لمزيد من الانخراط في شتى المناطق التي ترتبطان فيها بروابط التاريخ واللغة والثقافة والعرق، وخاصة في جوارهما الإقليمي، حيث يروج الروس في شرق أوكرانيا والأتراك في شمال سوريا لمفهوم "التماثل الهوياتي"، وينتج عن ذلك بروز نموذج جديد مشابه للنموذج الإمبريالي في السياسة الإقليمية كسبب مباشر لفشل كل من روسيا وتركيا في تحقيق الاندماج السياسي والمؤسساتي مع الغرب، ومن المبكر الحكم إن كان هذا النموذج سيؤدي إلى عالقة تعاون بين البلدين أم أنه سيتسبب بعالقة تنافس غير منضبط بينهما.
النموذج السوري
منذ التدخل الروسي في سوريا (2015)، طورت أنقرة وموسكو عملية مساومة ممنهجة تتيح لكليهما مجال المناورة لتحقيق المكاسب، والحد من احتمالات المواجهة المباشرة في الوقت نفسه، حيث يعمد الطرفان إلى الاعتراف بشرعية ادعاءات الطرف الآخر، ويحافظان على اتصال منتظم، ويسعيان للتوصل إلى حلول سياسية مقبولة للطرفين.
وترى الدراسة أن الصراع في سوريا يمثل الاختبار الأهم لمآلات العلاقة الروسية-التركية المعقدة، حيث تقوم علاقة تعاون أمني وعسكري (بالتعاون مع إيران) عبر منصة دبلوماسية بديلة عن المنصة الأممية لفض النزاع، وذلك نتيجة شعور تركيا بأن الولايات المتحدة لم تقدم الدعم الكافي لها خلال الأزمة الناجمة عن إسقاطها للطائرة الروسية، وإصرار واشنطن على دعم "قوات سوريا الديمقراطية" المقربة من "حزب العمال الكردستاني" (بي كا كا الإرهابية)، ما دفع بأنقرة للسعي إلى تأمين مصالحها الأساسية في سوريا من خلال محاولة إبرام صفقات مع موسكو، التي كانت قلقة من تآكل نفوذها في حال سقوط الأسد.
وبدورها؛ سعت موسكو إلى تعزيز علاقاتها مع نظام الأسد ومع ميليشيات "ي ب ك/بي كا كا"، وضغطت من أجل إدراج "ب ي د" في محادثات أستانا، متحدية أحد الخطوط الحمراء الرئيسية لتركيا.
وبوجود قـوات البلدين على الأرض، شهد المسرح السوري أخطر الاشتباكات بين القوات الروسية والتركية، بما في ذلك إسقاط الطائرة الروسية (2015) والضربات الجوية الروسية التي أودت بحياة عشرات الجنود الأتراك جنوب إدلب مطلع عام 2020.
وبقدر اختلاف الأهداف السياسية لأنقرة وموسكو في سوريا؛ إلا أن الطرفان تمكنا من التوصل إلى تسويات مؤقتة، أصبحت تمثل نموذجًا للتفاعلات بينهما في مناطق أخرى، حيث أعطى هذا الترتيب تركيا "فسحة" للحد من تهديد "ي ب ك/بي كا كا" وتأمين مصالحها الخاصة في سوريا، إذ توصل الطرفان إلى اتفاق لوقف النار في حلب (ديسمبر 2016) وقاما بإنشاء إطار لإجراء مشاورات المنتظمة، واستحدثا "خطًا ساخنًا" بين رؤساء الأركان، وتوصلا إلى خارطة طريق في محادثات "أستانا" التي تجرى بالتوازي مع الوساطة الأممية في جنيف.
والحظ الباحث أن عملية "أستانا" قد همشت دور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لصالح إيران وروسيا وتركيا، وهي الدول "المستعدة لتحمل مخاطر كبيرة واستخدام القوة العسكرية لتشكيل النتائج السياسية"، حيث ينخرط زعماء الدول الثالثة في مشاورات مكثفة بشأن سوريا.
وأتاحت تلك الآلية لتركيا المجال لحماية مصالحها الخاصة في سوريا، ولا سيما بناء السالم والاستقرار في المناطق الحدودية، وذلك في مقابل "إقرار أنقرة فعليًا أن الأسد سيبقى في السلطة"، وأنه لن يكون هناك حل للصراع القائم دون التوافق مع الروس والإيرانيين، حيث قبلت تركيا بالتعزيزات العسكرية الروسية في سوريا، ولم يعارض الكرملين بدوره العمليات التي شنتها تركيا للسيطرة على مناطق في شمال سوريا مثل "درع الفرات"، التي كانت الأولى من عدة عمليات عسكرية عبر الحدود تهدف إلى إبعاد تنظيم "داعش" و"ي ب ك/ بي كا كا" عن الحدود السورية-التركية، وإتاحة المجال لتركيا بالسيطرة على مساحة شاسعة تمتد على طول الحدود غرب نهر الفرات.
وفي أكتوبر 2019؛ وكجزء من عملية "نبع السلام"، تقدمت القوات التركية عبر الحدود إلى شمال شرق سوريا، إلا أن الدخول المفاجئ للقوات الروسية وقوات النظام السوري أجبر أنقرة على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تشرف بموجبه القوات الروسية على إبعاد ميليشيات "ي ب ك/بي كا كا"، وتقوم بدوريات مشتركة مع القوات التركية، مقابل التزام موسكو بكبح الميليشيات وإبقائهم بعيدًا عن الحدود.
ودفعت معارضة "الناتو" للعملية التركية بأنقرة للتعامل مع روسيا بشكل ثنائي، حيث نصت اتفاقية أستانا على إنشاء أربعة "مناطق خفض تصعيد"، واضطرت قوات النظام لتعليق عملياتها القتالية في تلك المناطق، وذلك بالتزامن مع انسحاب فصائل المعارضة من ثالثة من مناطق خفض التصعيد الأربعة بحلول عام 2020.
وتحرص أنقرة في الوقت الحالي على الاحتفاظ بإدلب، ليس لأنها تؤوي عشرات الآلاف من النازحين الذين قد يفرون نحو الحدود في حالة وقوع هجوم لاستعاد المدينة فحسب، ولكن لأن وجود فصائل المعارضة فيها يمنح أنقرة ورقة مساومة مع موسكو وطهران ودمشق.
ويمكن ملاحظة تدهور التنسيق الأمني بين الطرفين عام 2020 ،حيث اتهمت موسكو أنقرة بالفشل في تنفيذ التزامها بعزل "هيئة تحرير الشام" وعدم فتحها الطرق السريعة التي تربط دمشق بحلب واللاذقية، ما دفع بالقوات الروسية لشن عمليات عسكرية (فبراير 2020) وتوقف الدوريات المشتركة في محيط إدلب، الأمر الذي قابلته أنقرة بإرسال آلاف القوات الإضافية إلى شمال سوريا، وشن هجوم كاسح أسفر عن خسائر فادحة في صفوف النظام، وتم احتواء الأزمة من خلال اتفاق مباشر -بين بوتين وأردوغان- على وقف إطلاق النار، منحت بموجبه قوات النظام السيطرة على طريق دمشق-حلب، فيما احتفظت تركيا بوجودها العسكري في محيط إدلب.
وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال تطمح بإعادة توحيد البلاد تحت سلطة الأسد؛ إلا أنها مضطرة للقبول في الوقت الحالي بواقع الوجود التركي في إدلب وعلى طول الحدود الشمالية، بينما تقر تركيا من طرفها بأن الأسد -إلى جانب رعاته الروس والإيرانيين- هو لاعب مهيمن في بقية أنحاء البلاد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!