د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو في طريقه إلى جدة بعد سنوات طويلة من التوتر والتباعد في العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين إن "زيارتي إلى السعودية مؤشر على إرادتنا المشتركة لبدء مرحلة جديدة من التعاون بوصفنا دولتين شقيقتين". وقال أردوغان بعد لقاءات اليوم الأول "زيارتنا ستفتح الأبواب أمام عهد جديد من الشراكة مع السعودية الصديقة والشقيقة".
إلقاء نظرة خاطفة على أسماء وشخصيات الوفد المرافق لأردوغان سياسيا وأمنيا واقتصاديا يساعدنا على القول إن القيادات التركية ستعمل ما بوسعها في جدة، لإذابة الجليد في العلاقات بين البلدين، بعدما تفجرت قبل ٥ أعوام إبان أزمة الخليج وانحازت تركيا فيها إلى الجانب القطري بعد إدراج اسمها على لائحة المطالب والشروط المقدمة إلى الدوحة. لكن الحقيقة الأخرى الماثلة أمامنا تقول إن تبديد ارتدادات التوتر التي انتقلت سريعا إلى ملف قتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي والتباعد في ملفات إقليمية يتقدمها المشهد السوري والليبي، وفتح أنقرة أبوابها لقيادات الإخوان المصرية، وما نشر وقيل لن يكون سهلا نسيانه أو الالتفاف عليه. الابتسامة الساحرة تحتاج إلى بعض الوقت المصحوب بترجمات عملية لبعض المواقف والسياسات الخلافية التي ما زالت قائمة حتى اليوم. لن يكفي القول عفا الله عما مضى لنفتح الصفحة الجديدة. هناك ضرورات ومتطلبات وتحولات لا يمكن تجاهلها أو إغفالها.
نتائج القطيعة التركية السعودية كانت موجعة لذلك ستعطي تركيا الأولوية في الزيارة لغلق ملفات التباعد السياسي تمهيدا للتركيز على العلاقات التجارية والاقتصادية وإنهاء المقاطعة الشعبية لبضائعها، التي تسببت بانخفاض أرقام التبادل التجاري إلى أدنى المستويات، وهو ما انعكس على مصالح تركيا الاقتصادية مع المملكة.
أردوغان عملي وواقعي وهو يعرف أن المعارضة التركية مفككة مشرذمة عاجزة عن مواجهته في المعركة الانتخابية المنتظرة بعد ١٤ شهرا، لكنه لا يريد أن يكون تحت رحمة المفاجآت كما حصل في انتخابات البلديات التركية قبل ٣ أعوام، خصوصا وأن غالبية استطلاعات الرأي ما زالت تعطي قوى المعارضة فرصة الوصول إلى السلطة إذا ما وحدت صفوفها. لذلك هو قرر في العامين الأخيرين إطلاق سياسة تركية إقليمية جديدة ذهبت باتجاه مراجعة المواقف والعلاقات مع عواصم عديدة بينها القاهرة وأبوظبي وتل أبيب، لإغلاق المنافذ على تكتل المعارضة الذي لعب طويلا أوراق تأزم علاقات أنقرة مع دول المنطقة. صحيح أننا لم نشاهد بعد ارتدادات هذا التحول في سياسات حزب العدالة والتنمية الداخلية والخارجية والتي لا يمكن فصلها عن الأسباب والدوافع الاقتصادية والمالية، والانسداد الحاصل في أكثر من قضية تعني تركيا في الإقليم، وصحيح أيضا أن المسألة ما زالت تحتاج إلى كثير من الصبر والجهد لأن التباعد لم ينته ولأن القضايا بالنسبة لكثير من دول المنطقة أصبحت متداخلة ومتشابكة بعدما ولدت اصطفافات ضد تركيا وجمعت المصالح دول عربية وإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية في خندق مواجهة واحد مع تركيا. وصحيح أن الرياض لم تنتج مسلسلات الدراما المصرية التي نتابعها في رمضانيات الموسم التي تقول إننا لسنا "عائدون" قريبا لأن "الاختيار" ما زال صعبا؛ إلا أن مهمة أردوغان اليوم ليست سهلة إطلاقا. قد تكون باتجاه تفكيك قوى المعارضة ضده في الداخل، لكن مهمته الأخرى هي تفكيك الاصطفاف الإقليمي الذي تشكل بمواجهة تركيا في السنوات الأربع الاخيرة وما زال من المبكر جدا إعلان انتهاء مفعوله.
الرياض قادرة على منح أردوغان كثيرا من الفرص وتسهيل قطع المسافات وربما التوسط بينه وبين القاهرة لتسريع التطبيع. لكن الرياض تريد أولا أن تحسم أنقرة موقفها وأن ترصد سياسة تركية جديدة فيها كثير من الوضوح والثبات في التعامل مع إيران، وبعدها إغلاق ملفات محاولة بناء تكتلات إقليمية في مواجهتها كما حدث في قمة كوالالمبور، ثم قبول لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة في العلاقة مع أفغانستان وباكستان التي كانت تتقدم وسط تفاهمات تركية إيرانية تتجاهل ما تقوله وتريده السعودية.
الملف السوري هو العقبة / الفرصة اليوم ليقرب أكثر بين البلدين خصوصا بعد المصالحة التركية الإماراتية وارتداداتها الإيجابية في سوريا، والتفاهمات المحتملة بين أنقرة وتل أبيب بالشق الإيراني هناك. المنتظر اليوم هو تقارب تركي سعودي في سوريا يأخذ بعين الاعتبار تحرك العواصم العربية والخليجية الفاعلة في الملف لإنجاز هذا الاختراق. خصوصا وأننا نردد في الداخل التركي منذ أسابيع أن سياسة أنقرة السورية الجديدة قاب قوسين أو أدنى.
شهد العام ٢٠١٧ قمتين بين البلدين. الأولى خلال زيارة الرئيس أردوغان للسعودية في شباط والثانية في تموز، حين التقى الرئيس أردوغان مع الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مدينة جدة. لتنفجر بعدها الأزمة الخليجية التي انعكست سلبا على مسار العلاقات التركية السعودية. صحيح أننا نتحدث عن صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين لكن الصحيح أيضا أنه صباح اليوم التالي لم تحدث هذه المفاجآت الكبيرة في مسار العلاقات، فعدد من يقول العكس قليل جدا. هناك التباعد بين أنقرة والرياض الذي وصل إلى الساحات الشعبية والإعلامية والمؤسسات الاقتصادية وهو ترك كثيرا من الآثار السلبية الموجعة التي تنتظر اللملمة.
وهناك الأرقام التي تقول إن الواردات السعودية من تركيا تراجعت في العام ٢٠٢١ وحده إلى ٦٢ بالمئة ولتصل إلى ٨٨٦ مليون دولار مقابل ٢ مليار و٣٠٠ مليون قبل عامين. وهناك أطراف محلية وإقليمية كثيرة استثمرت في القطيعة بين الطرفين تضررت مصالحها من هذا الانفتاح وستحاول النبش في أسفل أسس البناء الجديد. لكن الصحيح أيضا هو تقدم قناعة تركية سعودية جديدة تقول إن المتطلبات والدوافع نحو التهدئة الحلحلة كثيرة، واندماج ثقل البلدين وقدرتهما على التأثير في رسم معالم كثير من القضايا هو المطلوب اليوم.
كان هناك تنافس شديد بين الإعلاميين والمحللين الأتراك قبل ٣ أعوام على نشر الكتب "الموثقة" بالأدلة والمعلومات حول جريمة خاشقجي وهي لاقت رواجا وإقبالا في صفوف القراء وقتها. الأقلام نفسها لا علم لها اليوم بزيارة أردوغان إلى جدة كما يبدو.
كان الأمير طلال بن عبد العزيز رحمه الله ينبهنا في كل لقاء جمعنا في الرياض "لا تخسروا السعودية ومصر". حاولنا قدر الإمكان بما أتيح لنا من فرص أن نقول ما عندنا لكن الأمور ذهبت بالاتجاه المعاكس وقتها. أردوغان يغرد اليوم بعد لقاءاته بالقيادات السعودية في جدة قائلا ".. وزيارتنا هذه التي تأتي في أيام رمضان الفضيل المليء بالرحمة والمغفرة والعطف ستفتح الأبواب أمام عهد جديد مع المملكة العربية السعودية الصديقة والشقيقة". تمام مع الرياض. لكن يبدو أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي لم ينجح في إقناع نظيره المصري سامح شكري بقبول دعوة رمضان، سينتظر نتيجة زيارة الوفد التركي المرتقبة في مطلع شهر أيار الحالي إلى القاهرة لعقد هذا الاجتماع مع شكري بعدها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس