ربيع الحافظ - الجزيرة نت
بالإمكان تغطية الانتخابات التركية بالأرقام واستطلاعات الرأي العام وعدد المقاعد التي سيحصل عليها هذا الحزب أو ذاك، وتفاعل الأسواق المالية وغيرها من المتغيرات اللحظية للحدث كما هي عادة الإعلام، وحينها لن تختلف هذه الانتخابات عن الانتخابات البريطانية أو البرازيلية أو الكورية سوى أنها تحدث في تركيا، ثم لا تلبث أن تتراجع عناوينها ويسدل الستار ويبدأ الحديث عن الانتخابات التالية.
بيد أن لهذه الانتخابات أكثر من عنوان يشتق من نجاحات الحزب الحاكم على مدى 13 عاما، لكن الحدث الذي سيحدد المسار السياسي للدولة الأكبر في المنطقة ومقدرتها من عدمها على القيام بدور محلي وإقليمي مفصلي في منطقة يعاد تشكيلها بشكل جذري؛ يستدعي عنوانا ذا دلالة تخص من يعيش على جغرافيا الحدث وفي محيطها كما يخص هوية المحيط.
ما تريده تركيا من هذه الانتخابات بشكل أساسي هو صمام دستوري يضمن استقرار الدولة الذي تحقق على مدى الأعوام الـ12 الماضية. ما تريده -بعبارة أخرى- هو نهاية دستورية لمشهد شلل سياسي أمضت فيه نصف قرن، تمثل بمسلسل حكومات ائتلافية هزيلة وصل عددها إلى ستين وخرجت منه بوصول الحزب الحاكم الذي استطاع تشكيل أول حكومة أغلبية.
الخروج كان مقترنا بجماهيرية استثنائية حققها الحزب الحاكم وما زال يحققها، لكن المطلوب هو مؤسسة دستورية تحفظ الاستقرار وتصنع القرار في ظرف هشاشة برلمانية محتملة الحدوث في أي نظام انتخابي في مجتمع سياسي تعددي. هذه المؤسسة هي النظام الرئاسي، والقرارات الكبرى هي كمٌّ من الإصلاحات السياسية والقضائية والاجتماعية التي تدفع مسيرة النمو.
ما تنكب عليه تركيا هو إعادة بناء لكيان سياسي واجتماعي تنحدر منه، يتمثل بدولة مركزية في مجتمع تعددي واستقرار سياسي، وهي المعالم الأساسية للمنظومة السياسية والاجتماعية العثمانية التي أدارت مجتمعا اشتمل على ثمانين عرقا ودينا ومذهبا.
هذه المنظومة تعطلت بقيام الدولة التركية الحديثة، وتحول الكيان السياسي للدولة من كيان هوية إلى كيان قومية. التحول استنزف الدولة داخليا على جبهات متعددة، وحرمها إقليميا من عمق اجتماعي وسياسي طبيعي فضلا عن فلك سياسي.
ليس مجانبة للصواب -في هذا السياق- القول إن تركيا "تتعثمن" لكنها "عثمنة" إدارية داخلية، والانتخابات هي قنطرتها لعبور دستوري إلى آليات التحول في إدارة الدولة والمجتمع. ورغم أن العثمانية وعاء لنظام إقليمي، لكن الإصلاحات التركية يغيب فيها البعد الإقليمي وتهمل بشكل واضح التأطير الفكري الإقليمي رغم حضور مادته الغنية في الأرشيف العثماني، فالدولة -ولحسابات تعتبرها موضع حساسية إقليمية- تجمع بين النظم الإدارية للمنظومة العثمانية في الداخل وبين السياسة الخارجية للدولة القومية.
لكن المهم في الإصلاحات التركية هو انسجامها -وفي لحظة استثنائية من تاريخ المنطقة- مع الهوية القيمية والاجتماعية والسياسية لمجتمعات المنطقة، ومع نظمها الإدارية التي استطاعت أن تنشئ بها دولا ومجتمعات ناجحة بعد تشظي المجتمع الإقليمي في أعقابالحرب العالمية الأولى.
ما يجري في المحيط العربي هو عكس ما يجري في تركيا، حيث انهيار الدولة وتفكك المجتمع واختفاء التجمعات الحضرية واستئصال مقومات النهوض، وصولا إلى زوال الخريطة السياسية والاجتماعية التي استطاعت من خلالها مجتمعات المحيط العربي والمجتمع التركي استئناف التعايش الإقليمي في حقبة الدول القومية.
تسجل الدولة في المحيط العربي -ومنذ ظهور الحزمة الطائفية في كيانها السياسي في أعقاب ثورة إيران- تراجعا رتيبا مطلقا وسلسلة تحولات اجتماعية متلازمة: تراجع الدولة يقود إلى تراجع المجتمع الذي يقود بدوره إلى تراجع المواطنة وتقهقر المجتمع إلى مكون العشيرة والقرية، وضياع الحقوق والأمن.
هذه المتلازمة الاجتماعية أدخلت مجتمعات المنطقة في بحث فطري عن بدائل للخروج من الأزمة الشاملة. في هذا النمط من البحث عن الحل، ينخفض سقف المطالب لدى المجتمع والفرد، ولا اعتبار لشيء فيه أكثر من مطلب النجاة بالنفس والقيم على يد شريك مستأمن على القيم.
تحت واقع هذه المعطيات انقسمت جغرافية المشرق العربي إلى جغرافيتين متميزتين: شمال (الهلال الخصيب) تغيب عنه الدولة، وجنوب (الجزيرة العربية) ما زالت الدولة فيه قائمة أمام تحديات خارجية وداخلية.
في جغرافية الشمال تتراجع فكرة الدولة القومية وتولد فكرة دولة الهوية ثقافيا وسياسيا، وهو منحى سياسي اجتماعي يعيد إنتاج نفسه بعد قرن من معطيات مشابهة خلال الاستفتاء على المصير السياسي لمدينة الموصل عام 1918، بعد الحرب العالمية الأولى، بين البقاء مع بقايا النظام السياسي العثماني ممثلا بدولة تركيا، وبين نظام سياسي يجلبه المحتل الإنجليزي.
كان أهل السنة الذين مثلوا النظام العثماني هم الطرف الخاسر في الحرب، وجاء اختيار الحاضرة العربية السنية الأكبر في المنطقة بوازع الفرز القيمي الذي تمخضت عنه الحرب، وجاءت النتيجة كما يعرفها أهل المدينة وتتناقلها أجيالهم وهي البقاء مع "المسلم" (بلفظة الناس العاديين)، رغم الرؤية الرسمية المخالفة التي تبنتها الدولة العراقية ومناهج التدريس.
من الجانب التركي (ومن جانب أي دولة إقليمية بشكل عام) يمثل المحيط الإقليمي الفاقد لمنظومة الدولة والمجتمع سيولة فكرية وسياسية تجعل من مجتمعه مزرعة سياسية لمن يسفح الأموال، هذه البيئة أعسر على الهندسة الإقليمية -بالنسبة للدولة الإقليمية- من تلك التي تحكمها نظم هرمية، وأصعب على الولوج لمن اعتاد باب الوزارة والسفارة مدخلا واعتاد طرقه قبل الدخول كالدبلوماسية التركية.
من مصلحة الدولة الإقليمية أمام السيولة الفكرية والسياسية في محيطها أن تكون أنموذجا واعدا لنظام اجتماعي ناجع ودولة مركزية قوية يقع عليهما اختيار هذا المحيط الفاقد لهما والحر في عملية الاختيار بعد زوال دولته ومحاربة هويته. من المعالم المهمة للأنموذج الواعد هو ابتعاد شبح الهشاشة عن نظامه السياسي الذي يصيب مصداقيته السياسية والاقتصادية، وهو ما يحدث اليوم في أعرق مؤسسات الحكم في العالم ذات النظام الانتخابي.
العنصر المشترك الآخر في رؤية البحث عن الحل في البيئتين العربية والتركية، هو أن العالم يعيش اليوم حقبة اصطفافات كتلية إن لم تكن قومية فاقتصادية أو أمنية، تمثل طرفي المعادلة فيها دولة كبيرة بحاجة إلى حاضنة إقليمية آمنة، ومحيط بحاجة إلى منظومة إقليمية تضمن أمنه وهويته وتمنعه من أن يكون مصبا لمشاريع خارجية غريبة.
أمام هذا المشهد يبرز الدور الإقليمي لتركيا، ودور نظام سياسي واجتماعي تعمل على إعادة بنائه. في محطة مفصلية كهذه في مسار الدول الإقليمية، تتأجل عادة جميع الخلافات بين الأطياف السياسية، ويتصدر ملف تعزيز النظام الداخلي والوفاق حول الإستراتيجية الخارجية.
ما تظهره فصول الانتخابات الحالية هو غير ذلك. أحزاب المعارضة التركية لا تتصرف بهذه الطريقة ولا بمسؤولية أحزاب يمكن أن تحكم البلاد يوما ما. ما يفرق هذه الأحزاب هو كل شيء لكنها تتوحد اليوم حول شيء واحد هو إسقاط نظام حكم جلب الاستقرار، وقطع الطريق على إصلاح دستوري يرسخ نظام الدولة المركزية ومن ثم إبقاء الطريق سالكا أمام الهشاشة السياسية. هذه الانتخابات ليست حول طقوس العبادة، وإنما عن هدم المعبد.
الاقتتال داخل غرفة القيادة الإقليمية صورة لا تثير إعجاب محيط يبحث عن قائد، وقد كان نشوء قوى سياسية برؤى طارئة نحو المحيط العربي داخل النظام السياسي للدولة العثمانية بعد الانقلاب الاتحادي (الاتحاد والترقي) سببا في إذهاب هيبتها الإقليمية، وضوءا أخضر لنشوء بؤر سياسية مناوئة في الولايات ومن ثم تقويض نفوذها.
إذا كانت الأمور بمقاصدها فإن ما يجري في منطقتنا في بيئتيها العربية والتركية هو معركة واحدة تخوضها كتلتان، بصرف النظر عن أشكالهما وأسمائهما وطرقهما في التعبئة والتنفيذ: كتلة الدولة وكتلة المليشيات، والمستهدف هو الدولة إبقاء أو إفناء. الطرف الأول يمثله النظام السياسي في دولة المؤسسات والقانون الأخيرة في المنطقة (تركيا)، والآخر تنفذه مليشيات الأقليات الطائفية والعرقية برعاية إيران. هذا هو عنوان الصراع في المنطقة، جانب منه يدار بالبندقية وآخر يدار بالقفازات المخملية.
التصويت الذي يجري في المدن التركية هو تصويت على الأنموذج العملي الأخير لنظام الدولة في المنطقة، وتصويت بالنيابة لمدن وحواضر المنطقة العربية حول نمط الدولة والمجتمع الذي انتزع منها والذي ينبغي أن يعود.
في خضم هذا التحالف بين مجتمعات كتلة الدولة، لا ينتظر أن تستوفي الدولة الإقليمية (تركيا) أهداف وآليات الدور الإقليمي المناط بها، ولن يبلغ أداؤها الطموح لفترة من الزمن، فانتقال الكيانات السياسية من الإمبراطورية إلى الدولة هو من أصعب الأطوار في إدارة الدول، فيه تقلم الإمبراطورية السابقة أذرعها الإقليمية بدوافع اقتصادية أو فكرية أو بكليهما. الدولة التركية لم تكتف بهذا القدر بل دخلت في حرب ثقافية مع ذاتها لمدة قرن، وتقع على عاتقها اليوم أدوار لم تتمرس عليها منذ حين، وتخوض إصلاحات لاستعادة أذرعها.
إذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن أميركا التي يطمئن حلفاؤها لقيادتها هي التي تلتقي أطيافها السياسية حول القواسم العظمى لمصالح حلفائها، ويتبارى ساستها في توثيق العلاقة معهم. هؤلاء الحلفاء يجدون في أميركا المستقرة ونكهتها الثابتة ضمانة لقيمهم، ولا يضيرهم بعد ذلك من يفوز برئاستها، وهذا هو مفهوم الشراكة الإقليمية البديل عن صورة الدولة القوية المتسلطة على الجوار، وهو ما تحول أحزاب المعارضة في تركيا دون حصوله والثمرة تجنيها كتلة المليشيات.
إذا كانت هوية المنطقة على المحك -وهي كذلك- وإذا كان الأمن الإقليمي هو أزمة مجتمعات المنطقة في معركة الفناء والبقاء -وهو كذلك- وإذا كان النظام السياسي في تركيا هو أنموذج الدولة والمجتمع التعددي الأخير في المنطقة -وهو كذلك- فإن من حق المواطن في المجتمع الإقليمي المشاركة في الانتخابات من موضعه في مدينته وقريته.
ويتم ذلك بفتح بيئته وأسواقه وإعلامه للقوة السياسية البانية لنظام الدولة ولأذرعها الاقتصادية والتربوية، وعدم الترحيب بالقوى الأخرى المفرطة بالمصلحة الإقليمية المشتركة وإيصال الرسالة الإقليمية إلى قواعدها الانتخابية. بذلك لا تكون الانتخابات في الدولة الإقليمية حدثا قوميا بل فعالية إقليمية وخطوة إقليمية مشتركة على طريق استعادة المنطقة لكيانها الإقليمي ومناعتها الثقافية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس