ترك برس
شهدت الأسابيع الأخيرة، صدور تصريحات من مسؤولين رفيعي المستوى في الدولة التركية، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب أردوغان، توحي باعتزام أنقرة تطبيع علاقاتها مع النظام السوري الذي قطعت علاقاتها الدبلوماسية معها بشكل شبه تام، منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011، فيما نفى بعض المراقبين أن يكون هناك تطبيع بين الجانبين، وأن ما تقوم به تركيا هو مناورة للضغط على الحلفاء الغربيين.
وكان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قال الأسبوع الفائت إن هناك ضرورة لمصالحة المعارضة السورية والنظام، لتأسيس سلام واستقرار في سوريا يمكّن من مكافحة الإرهاب، إضافة لحديثه عن لقاء عابر له مع وزير الخارجية السوري فيصل مقداد قبل أشهر على هامش قمة دول عدم الانحياز.
الجدل الكبير الذي تسببت فيه هذه التصريحات، إضافة لرد الفعل في الشمال السوري، دفعت وزارة الخارجية التركية لإصدار بيان يفسر تصريحات الوزير على أنها استمرار لسياسة تركيا الداعمة لحل سياسي يراعي مطالب الشعب السوري، مؤكدا أن تركيا "ستبقى متضامنة مع الشعب السوري".
المعارضة التركية تلقفت تصريحات الوزير وسوّقتها على أنها انتصار لها، من باب أن الحكومة قد "حاولت إسقاط الأسد، وحين فشلت عادت لمصالحته"، وحين سئل الرئيس التركي عن ذلك خلال رحلة عودته من أوكرانيا، كان رده أن تركيا "لم يكن هدفها أو همُّها هزيمة الأسد"، وإنما كانت كل خطواتها في سوريا في إطار مكافحة الإرهاب.
وأكمل أردوغان أن بلاده ليس لها أطماع بخصوص الأراضي السورية، وأنه لا يمكن استمرار القطيعة بين الدول، مؤكدا ضرورة الحوار وأهميته، وداعيا لوصول السوريين قريبا لمحطة صياغة الدستور، ومتحدثا عن أمله في "خطوات متقدمة لبلاده مع سوريا" سيكون من شأنها المساهمة في "إفساد الكثير من الخطط في المنطقة والعالم الإسلامي".
ونقلت "صحيفة تركيا" -المقربة من الحكومة- النقاش إلى مساحة جديدة، حين نقلت عن مصادر لم تسمها وجود شروط متبادلة بين أنقرة ودمشق من أجل "إعادة فتح قنوات الاتصال وتطبيع العلاقات" بينهما.
وحسب الصحيفة، فإن النظام السوري قد اشترط أمورا مثل إعادة محافظة إدلب لإدارته، ونقل معابر حدودية لسلطته والسيطرة الكاملة على طريق "إم 4" التجاري الدولي، وامتناع تركيا عن دعم العقوبات الغربية على رجال الأعمال السوريين، ومناقشة الدعم المطلوب من أنقرة لإعادة سوريا للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرهما من الهيئات الدولية، والتعاون في مكافحة الإرهاب، وإعادة النفط للحكومة السورية.
في المقابل، حسب الصحيفة، فإن تركيا أيضا لها شروط قبل فتح قنوات الاتصال وتطبيع العلاقات، وهي تطهير المنطقة بالكامل من عناصر "بي كي كي" الإرهابي وذراعه السوري "ب ي د/ ي ب ك"، والقضاء التام على التهديد الإرهابي على الحدود التركية السورية، والاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة والحكومة السوريتين والعودة الآمنة للاجئين، وبدء عودة اللاجئين في المرحلة الأولى التجريبية لدمشق وحمص وحلب مع مراقبة تركيا لمجمل العملية، وتطبيق مسار جنيف وكتابة دستور ديمقراطي وإجراء انتخابات حرة والإفراج الفوري عن السجناء السياسيين.
الخبر أوحى بوجود محادثات غير مباشرة بين أنقرة ودمشق لتطبيع العلاقات. ويبدو أن هذه المحادثات كانت بوساطة روسية حيث إن ما قد يدعم هذه الفرضية أن التصريحات التركية المتلاحقة أتت بعد قمة سوتشي الأخيرة التي جمعت بين بوتين وأردوغان، لا سيما أن الأخير جدَّد اتهام الولايات المتحدة والتحالف الدولي بدعم الإرهاب في سوريا بلهجة حادة.
الكاتب الصحفي والمهتم بالشأن التركي، سعيد الحاج، قال إن "كل ما سبق أوحى بأن تركيا تسعى لتطبيع العلاقات بالكامل مع النظام السوري أسوة بمساعيها مع دول وأطراف أخرى، مثل الإمارات والسعودية ومصر، وحتى إسرائيل كما حصل مؤخرا."
وأضاف في مقال له على "الجزيرة نت" أنه "وبعيدا عن حديث الرغبات والأماني، فإن نقاش الممكنات يدفعنا لتقييم دوافع التقارب بين الجانبين وكذلك كوابحه ومعوقاته، وقبل هذه وتلك لا بد من التذكير بالسياقات العامة التي تسبق الحدث الحالي، وفي مقدمتها إغلاق صفحة الربيع العربي إقليميا، وأولوية مكافحة الإرهاب بالنسبة لأنقرة، ومسار التهدئة والحوار في المنطقة عموما، وتبدل الموقف التركي من القضية السورية سابقا حسب التطورات، وقناة التواصل الاستخباراتية القائمة بين الجانبين."
وأوضح أن مما يدفع تركيا لفتح قنوات التواصل مع النظام السوري "فكرة المصالح المشتركة، مثل مكافحة المنظمات الانفصالية والإرهابية لحفظ أمن الحدود والأراضي التركية وكذلك مشروع عودة/ إعادة السوريين المقيمين في تركيا. ومنها كذلك السعي الروسي للتوسط بين الجانبين مؤخرا وتقديم النظام كبديل عن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال وعن العملية التي تلوّح بها تركيا منذ شهور."
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
ومن الدوافع أيضا الموقف الغربي عموما والأميركي على وجه الخصوص من "قسد" و"ب ي د/ي ب ك" بما يتجاهل متطلبات الأمن القومي التركي.
ومنها كذلك استحالة الحل العسكري واستعصاء الحل السياسي، وفق المعطيات الحالية. ذلك أن حالة المواجهة العسكرية بين النظام والمعارضة -وبالتالي إنهاء أحدهما للآخر- لم تعد قائمة، كما أن المسار السياسي وفق موازين القوى الحالية وحالة الجمود القائمة من الصعب أن يفضي لفترة انتقالية وحكومة جديدة وفق القرار 2254، وإنما إلى حالة أقرب للتصور الروسي وهي إصلاحات تحت سقف النظام (وربما إعادة هيكلته).
ولعل الدافع الأهم بالنسبة للحكومة التركية هو الرأي السائد داخليا بفوائد التعاون مع النظام، بما يكفل مكافحة الإرهاب ومنع تقسيم سوريا من جهة وعودة اللاجئين من جهة أخرى. هذا النقاش تبنته المعارضة التركية لسنوات عديدة، لكن بات يتردد مؤخرا على ألسنة وأقلام مقربة من الحكومة والحزب الحاكم كذلك. ولعل تأجيل العملية التركية كل هذه الفترة يحوج الحكومة إلى تقديم إنجاز ما بخصوص الملف السوري، الذي بات في مقدمة الملفات المطروحة على أجندة الانتخابات وحملاتها، وفق ما تظهر استطلاعات الرأي التي توليها الحكومة التركية اهتماما كبيرا.
في المقابل، رغم كل هذه الدوافع، فما زالت تقف في طريق تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق عقبات كبيرة وحقيقية، أهمها أن التطبيع الكامل للعلاقات بين الجانبين سيعني اعترافا واضحا وكاملا من تركيا بالنظام السوري، مما قد يفتح الباب على مطالبة الأخير لها بسحب قواتها ومغادرة الأراضي السورية، وهذا ما لا تريده أنقرة في الوقت الحالي من دون ضمان أمنها.
والمانع الثاني هو كل ما بنته السنوات العشر الماضية بين الجانبين من سدود وفجوات ومواجهات مباشرة وغير مباشرة لن يكون من السهل تناسيها أو القفز عنها، كما سيصعب تسويق ذلك شعبيا وداخليا.
ومن العقبات كذلك الشروط المتبادلة بين الجانبين، إذ إن بعضها يعاكس رغبة و/أو يتجاوز قدرة الطرف الآخر، أقله وفق الظروف الحالية، وخصوصا ما يتعلق بإدلب ضمن شروط النظام ومسار الإصلاح السياسي والانتخابات ضمن الشروط التركية، وفق ما سرّب.
ومنها أيضا أن التقارب -بل والتعاون- مع النظام قد لا يحقق لتركيا أولويتها هناك، أي إبعاد عناصر قسد و"بي كي كي" عن حدودها، في ظل تجارب عديدة سابقة من تبادل الأدوار بين الأخيرة والنظام للالتفاف على العمليات التركية التي تستهدفها.
وأخيرا، فإن مواقف الشمال السوري الشعبية والفصائلية، بعد حديث وزير الخارجية التركي عن ضرورة تحقيق مصالحة بين النظام والمعارضة، تعطي رسائل ذات دلالة لأنقرة بخصوص المسارات المستقبلية، ولعل ذلك يقلقها تحديدا بخصوص العمليات العسكرية التي تخوضها قواتها مع بعض الفصائل السورية.
وبالنظر إلى ما سبق من دوافع وعقبات للمسار، يمكن الخروج باستخلاصين أساسيين:
الأول: أن كل ما يتعلق بالنظام السوري من قدرات وسيطرة وأدوات سياسية وعسكرية وغيرها ليست المعيار الوحيد، ولا حتى الرئيس، بخصوص قرار أنقرة حول العلاقة معه، بل إن هناك ما يرجَحُ عليه في كفة صناعة القرار، مثل المعادلات الداخلية والدور الروسي وتحركات قسد والموقف الأميركي إلخ.
الثاني: أن تطبيعا كاملا للعلاقات بين الجانبين ليس مرجحا حاليا، بل ولا يبدو وشيكا، وأن احتمال أن تكون التصريحات التركية مجرد مناورة للضغط على الحلفاء الغربيين ضئيل كذلك؛ فالمرجّح هو تطوير العلاقات بشكل بطيء ومتدرج، بحيث يشمل ذلك خطوات من قبيل إقرار تركيا بحلول النظام مكان قسد في بعض المناطق، وتعديل اتفاق أضنة بين الجانبين، وبناء علاقات سياسية متدنية المستوى في البدايات وتطويرها مع الوقت.
مسار من هذا القبيل، إن تحقق، كفيل بأن يقدم للطرفين فرصة لإثبات حسن النوايا واختبار نوايا الطرف الآخر، وعدم الندم على خطوات قد تبدو متسرعة أو غير ناضجة، ومراكمة النقاط الصغيرة والتفصيلية مع الوقت، من دون التفريط في المكاسب التي يحظى بها حاليا، وخصوصا تركيا التي لن ترغب بسحب قواتها من سوريا بدون ضمان أمنها بالكامل.
ولذلك، بناء على ما سبق، فإن إمكانية تطوير العلاقات مع النظام لا تعني تغيرا جذريا في موازين القوى في الشمال السوري ولا في المعادلات القائمة هناك، ولا من المرجح أن تتخلى أنقرة عن ورقة المعارضة السورية في المرحلة الراهنة، فليس من المنطق أو المتوقع أن تذهب للتقارب مع النظام متخلية عن واحدة من أهم أوراق قوتها في القضية السورية.
أما فرص نجاح هذا المسار فمن الصعب الجزم بها في الوقت الراهن، فذلك سيخضع لإرادة عدة أطراف إضافة لكل من أنقرة ودمشق، والتطورات الميدانية، ومسار العلاقات بين تركيا من جهة والولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى، وعوامل أخرى عديدة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!