د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
من المِنَنِ الَّتي منَّ الله بها على عباده المؤمنين يوم بدرٍ: أنَّه أنزل عليهم النُّعَاسَ، والمطر، وذلك قبل أن يلتحموا مع أعدائهم، قال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ [الآنفال: 11] .
قال القرطبيُّ: «وكان هذا النُّعاس في الليلة الَّتي كان القتال من غدها، فكان النَّوم عجيباً مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهمِّ، ولكنَّ الله ربط جأشهم.
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارسٌ يوم بدرٍ غير المِقْدَاد على فرسٍ أَبْلَقَ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ يُصلِّي، ويبكي حتَّى أصبح. وفي امتنان الله عليهم بالنَّوم في هذه الليلة وجهانِ:
أحدهما: أنْ قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثَّاني: أنْ أمَّنهم بزوال الرُّعب من قلوبهم، كما يقال: الأمن مُنِيمٌ، والخوفُ مُسْهِرٌ».(أبو فارس، 1982، ص66)
وبيَّن - سبحانه وتعالى -: أنَّه أكرم المؤمنين بإنزال المطر عليهم، في وقتٍ لم يكن المعتاد فيه نزول الأمطار، وذلك فضلاً منه، وكرماً، وإسناد هذا الآنزال إلى الله للتَّنبيه على أنَّه أكرمهم به.
قال الإمام الرَّازي: «وقد عُلِم بالعادة: أنَّ المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً، ويغتمُّ إذا لم يتمكَّن من الاغتسال، ويضطرب قلبه لأجل هذا السَّبب، فلا جَرَمَ عدَّ - تعالى وتقدَّس - تمكينهم من الطَّهارة من جملة نعمه».(القرطبي، 1965، 15/133)
وقوله تعالى: فقد روى ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ جريرٍ عن ابن عباس قال: «نزل النَّبي صلى الله عليه وسلم - يعني حين سار إلى بدرٍ - والمسلمون بينهم وبين الماء رملةٌ دِعْصَةٌ - أي كثيرةٌ مجتمعةٌ - فأصاب المسلمين ضعفٌ شديدٌ، وألقى الشَّيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: (تزعمون: أنَّكم أولياء الله، وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مُجْنِبينَ)، فأمطر الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون، وتطهَّروا، وأذهب الله عنهم رجز الشَّيطان، وثبت الرَّمل حين أصابه المطر، ومشى النَّاس عليه، والدَّواب، فساروا إلى القوم».(الرازي، 1999، 15/133)
فقد بيَّن - سبحانه -: أنَّه أنزل على عباده المؤمنين المطر قبل المعركة، فتطهَّروا به حسِّيّاً، ومعنويّاً؛ إذ ربط الله به على قلوبهم، وثبَّت به أقدامهم؛ وذلك: أنَّ النَّاظر في منطقة بدر يجد في المنطقة رمالاً متحرِّكةً لا زالت حتَّى اليوم، ومن العسير المشي عليها، ولها غبارٌ كبيرٌ، فلـمَّا نزلت الأمطار تماسكت تلك الرِّمال، وسَهُل السَّير عليها، وانطفأ غبارها، وكلُّ ذلك كان نعمةً من الله على عباده.(الطبري، 1980، 9/195)
ابتكر الرَّسول صلى الله عليه وسلم في قتاله مع المشركين يوم بدرٍ أسلوباً جديداً في مقاتلة أعداء الله تعالى، لم يكن معروفاً من قبل؛ حيث قاتل صلى الله عليه وسلم بنظام الصُّفوف، وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4] .
وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصَّلاة، وتقلُّ هذه الصُّفوف، أو تكثر تَبَعاً لقلة المقاتلين، أو كثرتهم، وتكون الصُّفوف الأولى من أصحاب الرِّماح؛ لصدِّ هجمات الفُرْسان، وتكون الصُّفوف الَّتي خلفها من أصحاب النِّبال؛ لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، وكان من فوائد هذا الأسلوب في غزوة بدرٍ.( آل عابد، 1994،1/91)
1 - رهاب الأعداء، ودلالةٌ على حسن وترتيب النِّظام عند المسلمين.
2 - جعل في يد القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم قوَّة احتياطيَّة، عالج بها المواقف المفاجئة في صدِّ هجومٍ معاكس، أو ضرب كمينٍ غير متوقَّعٍ، واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة، والفُرْسان، ويعد تطبيق هذا الأسلوب لأوَّل مرَّةٍ في غزوة بدرٍ سبقاً عسكريّاً، تميَّزت به المدرسة العسكريَّة الإسلاميَّة على غيرها منذ أربعةَ عَشَرَ قرناً من الزَّمان.(الرشيد، 1990، ص401)
ويظهر للباحث في السِّيرة النَّبويَّة: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يباغت خصومه ببعض الأساليب القتالية الجديدة، وخاصَّةً تلك الَّتي لم يعهدْها العرب من قبل، على نحو ما قام به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في يوم بدرٍ، وأُحدٍ، وغيرهما.
ومن جهة النَّظرة العسكرية فإنَّ هذه الأساليب تدعو إلى الإعجاب بشخصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبراعته العسكريَّة؛ لأنَّ التَّعليمات العسكريَّة الَّتي كان يصدرها خلال تطبيقه لها، تطابق تماماً الأصول الحديثة في استخدام الأسلحة.(الرشيد، 1990، ص271)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه/2004م، صص 645-650
أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك المسمى تاريخ الطَّبري، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان - بيروت.1400ه1980م.
أبو عبد الله محمَّد بن أحمد الأنصاريِّ القرطبيِّ، تفسير القرطبيِّ دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت - لبنان، 1384ه 1965 م.
أبو بكر الرازي، تفسير الرَّازي، دار إحياء التُّراث العربي - بيروت، الطَّبعة الثالثة. 1420ه-1999م.
عبد الله محمد الرشيد، القيادة العسكريَّة في عهد الرَّسول(ﷺ) ، دار القلم، الطَّبعة الأولى، 1410 هـ 1990 م.
محمَّد بكر ال عابد، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول(ﷺ)، دار الغرب الإسلاميِّ، الطَّبعة الأولى.1414ه-1994م.
محمد عبد القادر أبو فارس، غزوة بدر الكبرى، دار الفرقان، الطَّبعة الأولى 1402هـ 1982م.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس