ترك برس
تعد جمعية "الاتحاد والترقي" من أبرز الأطراف التي كانت لها دوراً كبيراً في إسقاط الخلافة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر، وسبق ذلك عزلهم للسلطان عبد الحميد الثاني، آخر السلاطين العثمانيين الأقوياء.
"الاتحاد والترقي" منظمة تركية ثورية تأسست باسم "جمعية الاتحاد العثماني" في 2 يونيو/حزيران 1889، ثم غيرت اسمها عام 1915، وسعت إلى تغيير نظام الحكم بدعوى إقامة "دولة ديمقراطية حديثة".
استطاعت الجمعية عزل السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 والوصول إلى الحكم، وتبنت الفكر القومي وسارت وفق المذهب العلماني في سن التشريعات والقوانين.
وشكلت حكومة الحزب الواحد، وقمعت المعارضة منذ العام 1913 حتى حلت نفسها بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى عام 1918، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت".
النشأة والتأسيس
تأسست "الاتحاد والترقي" -التي بدأت نشاطها تحت اسم "جمعية الاتحاد العثماني"- في 2 يونيو/حزيران 1889، على يد مجموعة من طلبة الطب بمدرسة الطب العسكرية في إسطنبول، وهم: إبراهيم تيمو وعبد الله جودت وإسحاق سوكوتي ومحمد رشيد.
وقد بدأ التنظيم ناديا فكريا لطلبة الطب، ولم يذهب نشاطهم أبعد من قراءة الصحف المعارِضة للحكم التي تصدر في الخارج، والأعمال الأدبية التي ألفها أعضاء "جمعية العثمانيين الجدد" مثل نامق كمال وضياء باشا.
وكان أعضاء الجمعية قد تأثروا بأفكار التحرر والديمقراطية ونظام الدولة الحديثة، من خلال الاحتكاك بالفكر الغربي، فكانوا يسعون إلى إجراء تغييرات في الدولة العثمانية وإصلاح النظام السياسي وإحلال الديمقراطية، وإقامة حكومة دستورية تحقق الحرية والمساواة والعدالة للجميع.
ثم سرت أفكار جمعية الاتحاد أو "الاتحاديين" من المدرسة العسكرية الطبية، إلى جميع المدارس العليا، فزاد عدد المنتسبين، وحاول مؤسسو الجمعية إنشاء هيكل تنظيمي فعال.
ونُظم الطلاب في شكل خلايا سرية، وفقا للنموذج التنظيمي لجمعية "كاربوناري" الإيطالية، كما تأثروا بالمحافل الماسونية في شعاراتها وهيكلها التنظيمي السري.
التوجه الأيديولوجي
مال الاتحاديون في بداية نشأتهم إلى "العثمنة" والتي كانت تهدف إلى إقامة إمبراطورية عثمانية متطورة، تستند إلى مؤسسات ليبرالية بإمكانها ضمان ولاء كل الفئات الدينية والعرقية التابعة للدولة.
ثم بدأت الجمعية بالانزلاق نحو النزعة القومية، بل ونحو الطورانية الهادفة إلى توحيد ذوي الأصل التركي، ومحاولة فرض التتريك على رعايا الدولة من قوميات أخرى، والمطالبة بتنقية اللغة التركية من الشوائب التي أدخلتها القوميات غير التركية، وخاصة العرب والفرس.
ولعبت الماسونية واليهود دورا كبيرا في ظهور التيار القومي التركي، وتأجيجه في صفوف الاتحاديين، حيث زادت حدة النزعة التركية القومية بعد الاندماج مع "جمعية الحرية العثمانية" عام 1907 ومقرها سالونيك، معقل اليهود والماسونية آنذاك.
وانضم إلى صفوف الجمعية العديد من الأعضاء ذوي النزعة القومية التركية كطلعت بك والدكتور ناظم وبهاء الدين شاكر، والذين كانوا يمثلون رموزا قيادية ومؤثرة فيها.
وتنامت هذه النزعة منذ قيام حكومة الحزب الواحد عام 1914، وكان مؤتمر الجمعية المنعقد عام 1916 نقطة تحول أيديولوجي في تاريخها، إذ أعلنت الجمعية عن تبنيها للفكر القومي التركي، وقررت تبني مبدأ العلمانية بالتشريعات والقوانين.
المسار السياسي
بدأت نشاطات الجمعية تتنامى وأخذ فكرها ينتشر بسرعة، فوصل إلى مسامع السلطان عبد الحميد الذي رأى أن يفرض سيطرة أكثر إحكاما على مدرسة الطب العسكري، فعين محمد زكي باشا لإدارتها.
وقام زكي بفتح تحقيق شامل بحق الجمعية عام 1893، وطُرد 9 أعضاء بارزين من المدرسة، ورُحِّلوا إلى طرابلس وفزان، وعُفي عنهم بعد بضعة أشهر، وكان بعض الأعضاء قد فروا إلى الخارج، من بينهم ناشطون في المنظمة مثل إبراهيم تيمو وإسحاق سوكوتي وعبد الله جودت.
وكان أول ظهور علني للجمعية عام 1895، عندما امتلك أعضاؤها مطبعة، فطبعوا منشورات ووزعوها بإسطنبول، وعبّروا من خلالها عن أسفهم للأحداث الدامية التي رافقت ثورة الأرمن، وحمّلوا السلطان عبد الحميد المسؤولية المباشرة.
وقد استقرت مجموعة من الاتحاديين الفارين من الدولة العثمانية وبعض الطلبة في باريس، من بينهم ناظم السالونيكي الطالب بأكاديمية الطب في باريس، وكان يحاول نشر فكر الجمعية وتوسيع دائرتها، فتواصل مع أحمد رضا بك موظف دائرة المعارف السابق بالدولة العثمانية والمقيم في فرنسا، وأقنعه بالانضمام لهم، كما تم تعيينه رئيسا لفرع باريس.
وقام أحمد رضا -الذي قيل إنه كان متأثِّراً بأفكار الفيلسوف أوغست كانت ودستوره (الانتظام والتَّرقِّي). فأخذ رضا كلمة (التَّرقِّي) استلهاماً من دستور "كانت" بجمع المزيد من المؤيدين، وأشار على الأعضاء عام 1895 بتغيير اسم الجمعية إلى "جمعية الاتحاد والترقي".
وأُعدت لائحة لتحل محل المخططات التنظيمية المبعثرة التي نظمتها "جمعية الاتحاد العثماني" ونصت على وجوب خلع السلطان عبد الحميد، والعمل بالدستور الذي وضعه مدحت باشا عام 1876، وإعادة البرلمان.
وعام 1896 خططت الجمعية في إسطنبول لعملية انقلاب عسكري للإطاحة بالسلطان عبد الحميد، ولكن الانقلاب فشل، وقبض على قادة الجمعية وطرد أعضاؤها من المدارس والوظائف الحكومية، ونُفي بعضهم إلى مناطق نائية بالدولة.
ونتيجة لهذه الأحداث، فقدت الجمعية نفوذها في البلاد إلى حد كبير، مما جعلها تركز على أنشطتها بالخارج، فأسس أعضاؤها فرعي جنيف والقاهرة، وافتتحت فروعا في العديد من مدن البلقان.
وأصدروا مجموعة من الصحف والمجلات التي تعبر عن فكرهم، كجريدة "المشورة" في باريس و"الميزان" بمصر، وأصبح فرع باريس رسميا المقر الرئيس للجمعية.
وبعد الانقلاب الفاشل، أبدت الحكومة المصرية عدم ارتياحها لنشاط الجمعية على أراضيها، مما اضطر معه مراد بك ميزانجي (رئيس الفرع) وبعض رفاقه للانتقال إلى باريس.
وبوصول ميزانجي انقسمت الجمعية على نفسها، فكان أحمد رضا يمثل الجناح اليساري المتشدد بالجمعية، بينما يمثل ميزانجي الجناح اليميني، لذلك قام أعضاؤها الذين عارضوا خط أحمد رضا المتشدد بتعيين ميزانجي رئيسا عام 1897.
وهذا التوتر الحاصل في بنية التنظيم، إضافة إلى انتصار الدولة العثمانية على اليونان العام نفسه، زاد هيبة السلطان عبد الحميد وأثر سلبا على فعالية هذا التنظيم.
وفي هذه الأثناء، كلف السلطان عبد الحميد، أحمد جلال الدين باشا، بالتفاوض مع أعضاء الجمعية بالخارج، واستطاع إقناع ميزانجي وجماعة من أعضاء الجمعية، ووعدهم بإجراء إصلاحات وإنهاء الملاحقة القضائية ضدهم، فرجع العديد منهم إلى إسطنبول، وكلف بعضهم بتمثيل الدولة العثمانية في دول أجنبية.
وبسبب ذلك الاتفاق، فقدت الجمعية الكثير من أعضائها ونشاطاتها، ولم يبق إلا أحمد رضا والدكتور ناظم ومجموعة صغيرة، ولكن الجمعية لم تلبث أن استعادت بعضا من قوتها، بانضمام محمود جلال الدين باشا (صهر السلطان عبد الحميد) وولديه صباح الدين ولطف الله، الذين فروا إلى فرنسا عام 1899، ثم التحق بهم إسماعيل كمال بك.
وكان الاتحاديون متفقين مع الوافدين الجدد على المبدأ الأساسي (إسقاط السلطان) ولكن تمسك الأمير صباح الدين بمبدأ التعاون مع كافة الجماعات الدينية والعرقية بالدولة مع إمكانية السماح بالتدخل الأجنبي، كان مخالفا لفكر أحمد رضا، مما أدى إلى وقوع خلاف وفرقة بينهما.
انضمام جمعية "الحرية العثمانية" للاتحاديين
كانت جمعية "الاتحاد والترقي" تسعى لتوسيع نطاقها وزيادة قوتها، فتواصلت مع جمعية "الحرية العثمانية" في سالونيك، والتي تسعى أيضا للإطاحة بالسلطان و"إقامة حكم دستوري" وبعد العديد من المباحثات قبلت جمعية "الحرية" بالاندماج تحت جمعية "الاتحاد والترقي العثماني" عام 1907، وأصبح فرعها في سالونيك يمثل مقر جمعية "الاتحاد والترقي" بالداخل، وفرع باريس هو المركز العام ومقر الجمعية بالخارج.
وكان لجمعية "الحرية العثمانية" اتصال وثيق بالماسونية ويهود "الدونمة" وكان العديد من أعضائها ينتسبون إلى الماسونية، كما كانت بعض اجتماعاتهم تعقد في المحافل الماسونية، ويتلقون دعما كبيرا من اليهود.
وهذا التعاون والعلاقة الوطيدة مع الماسونية واليهود استمر بعد الاندماج، وأصبح سمة بارزة في جمعية "الاتحاد والترقي" وبدا ذلك واضحاً في التعاطف الكبير الذي أبدته الجمعية تجاه الحركة الصهيونية، والإجراءات التي وضعتها منذ وصولها إلى السلطة لتسهيل هجرة اليهود واستيطانهم في فلسطين.
كما كان يغلب على جمعية "الحرية" الطابع الثوري العسكري، وكان لها تغلغل بالجيش السلطاني الثالث في مقدونيا، وتضم العديد من ضباطه، وقد شكل بعض أعضائها مثل نيازي بك وأنور بك كتائب عسكرية، وهذا ما سهل على الجمعية الانقلاب العسكري على السلطان.
وعام 1908 بدأت الكتائب التابعة لنيازي بك وأنور بك وغيرها من كتائب الجمعية المسلحة حركة تمرد في مقدونيا على السلطان، وانضمت إليها فصائل مسلحة من ألبانيا، كما أيدتها شريحة واسعة من القطاع العسكري في أنحاء البلاد.
وقد اندلعت أعمال عنف في مقدونيا، فأرسل السلطان عبد الحميد، شمسي باشا، لقمع التمرد، ولكنه قتل ولم تنجح عملية ردع المتمردين، وامتد العصيان المدني والعسكري إلى كثير من المدن.
ورأى السلطان أن الأحداث قد تخرج عن السيطرة، فوافق على مطالب المتمردين ووعد بإعادة العمل بالدستور والعمل البرلماني، كما أصدر عفوا عاما، وسمح للمعارضين في المنفى بأوروبا وأجزاء مختلفة من البلاد بالعودة إلى إسطنبول.
الاتحاديون في السلطة
برزت جمعية "الاتحاد والترقي" بعد حركة التمرد التي قادتها، وخضع السلطان لمطالبها باعتبارها القوة السياسية الأهم، مما شجعها على فتح فروع في جميع أنحاء البلاد، ونقلت مقرها الداخلي من سالونيك إلى إسطنبول، وشارك أعضاؤها بالانتخابات النيابية التي جرت عام 1908، وفازوا فوزا ساحقا، حيث كان كل أعضاء المجلس منهم تقريبا.
وعمل "الاتحاديون" بعد فوزهم بالانتخابات على الحد من صلاحيات السلطان، والتدخل في الشؤون السياسية بشكل مفرط، مما أدى إلى قيام وحدات الحرس السلطاني -بتأييد من جماعة "الأحرار" وعلماء الدين المسلمين- بمحاولة انقلاب عام 1909.
ونادى المتظاهرون بحماية السلطان وإلغاء الدستور وإسقاط الحكومة وتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد واجه "الاتحاديون" هذه الثورة بعمل عسكري سريع وحاسم، حيث تحرك الجيش السلطاني الثالث من مقدونيا بقيادة الفريق محمد شوكت إلى إسطنبول، فحاصر القصر الذي يقيم فيه السلطان عبد الحميد وأعلن الأحكام العرفية.
واجتمع المجلس النيابي وأعلن موافقته على خلع السلطان، وتم عزله في 27 أبريل/نيسان 1909 ونفي إلى سالونيك، ونصب أخوه محمد رشاد (محمد الخامس) بدلا عنه.
وعام 1910 سُجلت الجمعية في إطار قانون الجمعيات الجديد من قبل مجلس الدولة، وأصبحت تشكل قوة هائلة، فحكمت باسم السلطان بعد أن سيطرت عليه.
وتركت الجمعية رئاسة الوزراء لشخصيات مرموقة ذات خبرة من غير المنتسبين لها كحسين حلمي باشا وحقي باشا ومحمد سعيد باشا، ولكن الحكم الفعلي كان بيد الوزراء المنتسبين لها كطلعت باشا وجاويد بك، فهي وإن لم تتسلم السلطة بشكل رسمي، فقد جعلت من نفسها هيئة رقابة تتدخل متى شاءت.
وقامت بالتضييق على المعارضة، وانتشرت النزعة الطورانية في صفوفها، وكثرت تجاوزاتها، مما أدى إلى انقسامها على نفسها، وأسس المنشقون عام 1911 حزباً أسموه "الحزب الجديد".
ودعا "الحزب الجديد" إلى ضرورة التقيد بالديمقراطية والدستور، وهاجم التجاوزات الصادرة عن جمعية "الاتحاد والترقي" ثم ظهر العام نفسه حزب "الحرية والائتلاف" الذي ضم جميع المعارضين لبرنامج الاتحاديين.
وكان كثير من أعضاء حزب "الحرية والائتلاف" أعضاء بمجلس النواب، وقد بدؤوا يؤثرون في الرأي العام ويبثون أفكارهم، وازدادت الضغوطات على حكومة محمد سعيد باشا التي حظيت بدعم الجمعية، فاضطرت إلى تقديم استقالتها.
وقامت الحكومة الجديدة -التي أسسها غازي أحمد مختار باشا عام 1912- بحل البرلمان، ومنع الضباط من الانتساب إلى الأحزاب والتدخل في السياسة.
ولم تعجب الإجراءات الجديدة الاتحاديين فقادوا انقلابا عسكريا أطاح بحكومة محمد كامل باشا، وأنشؤوا حكومة جديدة بقيادة محمود شوكت باشا في يناير/كانون الثاني 1913، الذي لم يستطع أن يبقى على وفاق مع الاتحاديين، كما لم يدم عهده طويلا، إذ اغتيل في يونيو/حزيران من العام نفسه.
ويعتبر شوكت باشا آخر شخصية مستقلة في السلطة، وبعد اغتياله شكل الاتحاديون حكومة الحزب الواحد وقمعوا المعارضة، ونفوا أنصار حزب "الحرية والائتلاف" وأجبر بعضهم على الفرار من إسطنبول، وسيطر الثلاثي المكون من طلعت باشا وأنور بك وجمال باشا على إدارة "الاتحاد والترقي".
وقد كانت الجمعية بسبب الظروف السياسية والنظام البرلماني أمام حاجة ملحة للظهور كحزب سياسي معاصر، فقامت من خلال مؤتمر عام 1913 بالتأكيد بشكل قاطع على كون الجمعية حزباً سياسياً، ولكنها أبقت على هيكلها التنظيمي السري، وظل الحزب دائما يحكم من خلالها بالخفاء.
وعام 1914 تم توقيع معاهدة سرية مع ألمانيا، وكذلك الهجوم على أهداف روسية بالبحر الأسود، وجُعلت المشاركة في الحرب العالمية الأولى أمرا واقعا على الكثيرين داخل الحكومة، مما أدى إلى نشوب خلافات متعددة داخل الجمعية.
وكان مؤتمر عام 1916 نقطة تحول في تاريخ الجمعية، حيث تم الإعلان عن تبني القومية التركية خطا أيديولوجيا، كما أجرى تغييرات جذرية في البرنامج السياسي للحزب وقرر تبني مبدأ العلمانية في التشريعات والقوانين.
وهكذا استمرت السلطة بيد الحزب الواحد حتى هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، فحلت الجمعية نفسها، وهرب زعماؤها إلى الخارج في نوفمبر/تشرين الثاني 1918.
وحاول الاتحاديون الذين بقوا في البلاد مواصلة أنشطتهم من خلال تشكيل حزب أطلقوا عليه اسم "حزب التجديد" لكنهم لم ينجحوا، وُحل الحزب وصودرت أصوله عام 1919.
ولكنهم حاولوا إعادة التنظيم بعد النصر في حرب الاستقلال التركية، إلا أن مصطفى أتاتورك كان يعتقد أنه لا مكان لهم في النظام الجديد، ورأى ضرورة "تطهير البلاد" من بقايا الاتحاديين، خاصة بعد محاولة اغتياله في إزمير عام 1926، فطوردوا ونُفذت عملية تصفية واسعة بصفوفهم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!